الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **
والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحوي المعقولي الفقيه النبيه الشيخ عمر البابلي الشافعي الأزهري تفقه على علماء العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني وتمهر في العلوم وقرأ الدروس وأخذ طريق الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء ولازمه في مجالسه وأوارده ملازمة كلية ولوحظ بأنظاره وتزوج بزوجة الشيخ أحمد أخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي وكانت مثرية فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس وماتت زوجته المذكورة لا عن عصبة فحاز ميراثها والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها دار البقر فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا وسكن دارًا واسعة واقتنى الجواري والخدم ومواشي وأبقارًا وأغنامًا واستأجر أرضًا قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع ثم تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته وأقام منعمًا معها في رفاهية من العيش مع ملازمته للإقراء والإفادة الى أن أدركه الأجل المحتوم وتوفي في هذه السنة بالطاعون وكان إنسانًا حسنًا جم الفرائد والفوائد مهذب الأخلاق لين الطباع حسن المعاشرة جميل الأوصاف رحمه الله تعالى. ومات العمدة الفاضل الواعظ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوي السراي المعروف ببشناق أفندي قدم مصر سنة تسع وستين ومائة وألف ووعظ بمساجدها وأكره الأمراء للجنسية ثم توجه الى الحرمين وقطن بمكة ورتب له شيء معلوم على الوعظ والتدريس ومكث مدة ثم حصلت فتنة بين الأشراف والأتراك فنهب بيته وخرج هاربًا الى مصر فالتجأ الى علمائها فكتبوا له عرضًا الى الدولة بمعرفة ما جرى عليه فعين له شيء في نظير ما ذهب من متاعه وتوجه الى الحرمين فلم يقر له بمكة قرار ولم يمكنه الامتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه واستطالته في كل من دب ودرج فتوجه الى الروم ومكث بها أيامًا حتى حصل لنفسه شيئًا من معلوم آخر فأتى الى مكة وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على أشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى أتباعهم وذكر مساويهم وظلمهم فأمر شريف مكة بالخروج منها الى المدينة فخرج إليها وقد حنق غيظًا على الشريف فلما استقر بالمدينة لف عليه بعض الأوباش ومن ليس له ميل الى الشريف فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهرًا وغرة مرافقة أولئك معه وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة فتعصبوا وزادوا نفورًا وأخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف وكاتبوا الى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقًا وأنه لا يحكم فيهم أبدًا وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط وأرسلوا بالعرض مفتي المدينة فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطابًا الى أمير الحاج الشامي والى الشريف ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة وعرف أن أصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم واستعد للقاء أمير الحاج بعسكر جرار على خلاف عادته ورام مناواته إن برز منه شيء خلاف ما عهد منه فلما رأى أمير الحاج ذلك الحال كتم ما عنده وأنكر أن يكون عنده شيء من الأوامر في حقه ومضى لنسكه حتى إذا رجع الى المدينة تنمر وتشمر وكاد أن يأكل على يده من التندم والحسرة وذهب الى الشام ولما خلت مكة من الحجاج جرد الشريف عسكرًا على العرب فقاتلوه وصبر معهم حتى ظفر بهم ودخل المدينة فجأة ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقائه فآنسهم وأخبرهم أنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام وليس له غرض سواه فاطمأنوا بقوله وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده حتى دخل من باب السلام وتملى من الزيارة وأقبلت عليه أرباب الوظائف مسلمين فأكرمهم وكساهم فلما آنس منهم الغفلة أمر بإمساك جماعة من المفسدين الذين كانوا يحفرون وراءه فاختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم خفية بالليل جماعة وكان المترجم أحد من اختفى في بيته ثلاثة أيام ثم غير هيئته وخرج حتى أتى مصر ومشى على طريقته في الوعظ وعقد له مجلسًا بالمشهد الحسيني وخالط الأمراء وحضر درسه الأمير يوسف بك ومال إليه وألبسه فروة ودعاه الى بيته وأكرمه وتردد إليه كثيرًا وكان يلجه ويرفع منزلته ويسمع كلامه وينصت الى قوله ولديه بعض معرفة بالعلم على طريقة بلادهم واستمر بمصر وسكن بحارة الروم ورتب له بالضربخانة مائة ونصف فضة في كل يوم لمصروفه وصار له وجاهة عند أبناء جنسه إلى أن وقع له ما وقع مع اسمعيل باشا بسبب الوصاية على التركة كما مر ذلك آنفًا وحط من قدره وأهانه وحبسه نحو ثلاثة أشهر ثم أفرج عنه بشفاعة علي بك الدفتردار وانزوى خاملًا في داره الى أن مات في أوائل شعبان بالطاعون سامحه الله تعالى. ومات الجناب المكرم المبجل المعظم جامع العارف وحاوي اللطائف الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشيدي الرومي الأصل مولي المرحوم علي آغا بشير دار السعادة المكتب المصري اشتراه سيده صغيرًا وهذبه ودربه وشغله بالخط فاجتهد فيه وجوده على عبد الله الأنيس وكان ليوم إجازته محفل نفيس جمع فيه المرؤوس والرئيس ثم زوجته ابنته وجعله خليفته ولم يزل في حال حياة سيده معتكفًا على المشق والتسويد معتنيًا بالتحرير والتجويد الى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن وجمع كل مستحسن ولما توفي شيخ المكتبين المرحوم اسمعيل الوهبي جعل المرجم شيخًا باتفاق منهم لما أعطى من مكارم الشيخ وطيب الأخلاق وتمام المروءة وحسن تلقي الواردين وجميل الثناء عليه من أهل الدين وألف من أجله شيخنا السيد محمد مرتضى كتاب حكمة الإشراق الى كتاب الآفاق جمع فيه ما يتعلق بفنهم مع ذكر أسانيدهم وهو غريب في بابه يستوقف الراتع في مريع هضابه ولم يزل شيخًا ومتكلمًا على جماعة الخطاطين والكتاب وعميدهم الذي يشار إليه عند الأرباب نسخ بيده عدة مصاحف وأحزاب وأما نسخ الدلائل فكثرتها لا تدخل تحت الحساب الى أن طافت به المنية طواف الوداع ونثرت عقد ذلك الاجتماع وبموته انقرض نظام هذا الفن. ومات صاحبنا الأديب الماهر والنبيه الباهر نادرة العصر وقرة عين الدهر عثمان بن محمد بن حسين الشمسي وهو أحد الأخوة الأربعة أكثرهم معرفة وأغزرهم أدبًا وأغوصهم في استخراج الدقائق واستنتاج الرقائق وأمهم جميعًا الشريفة رقية بنت السيد طه الحموي الحسيني ولد المترجم بمصر وربي في حجر أبويه وتعلق من صغره بمعرفة الفنون الغريبة فنال طرفًا منها حسنًا يليق عند المذاكرة وعرف الفرائض واستخرج منها طرقًا غريبة في استحقاق المواريث في قسم الغرماء في شبابيك وله سليقة شعرية مقبولة وله معرفة باللغة جيدة يطالع كتبها ويحل عقدها ويسأل عن غرائب الفن ويغوص بذهنه على كل مستحسن ولقد نظم فرائض الدين وأسماء أهل بدر وغير ذلك وبالجملة أنه كان من محاسن الزمان توفي رحمه الله في أواخر شعبان مطعونًا وخلف ولديه محمد جربجي وحسين جربجي أحياهما الله حياة طيبة ومات الأجل المبجل بقية السلف ونتيجة الخلف الوجيه الصالح النبيه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد شيخ سجادة جده سيدي عبد الوهاب الشعراني مات أبوه الشيخ أحمد في سنة أربع وثمانين وتركه صغيرًا دون البلوغ فكفلته أمه فتولى السجادة الشيخ أحمد من أقاربه وتزوج بأمه وسكن بدارهم ولما شب المترجم وترشد اشترك معه بالمناصفة ثم توفي الشيخ أحمد المذكور فاستقل بذلك ونشأ في عز وعفاف وصلاح وحسن حال ومعاشرة ومودة وعمر البيت حسًا ومعنى وأحيا مآثر أجداده وأسلافه وكان شديد الحياء والحشمة والتواضع والانكسار والخشية والحلم والتؤدة ومكارم الأخلاق ولما تم كماله بدا زواله واخترمته في شبابه يد الأجل فقطعت شمس عمره منطقة الأمل وخلف ابنًا صغيرًا يسمى سيدي قاسمًا بارك الله فيه ومات أعز الأخوان وأخص الأصدقاء والخلان النجيب الصالح والأريب الناجح شقيق النفس والروح وصحبته باب الخير والفتوح المتفنن النبيه سيدي ابراهيم بن محمد الغزالي بن محمد الدادة الشاريبي من أجل أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم وهو كان مسك ختامهم وبموته انقرض بقية نظامهم وقد تقدم استطراد بعض أوصافه في ترجمة المرحوم سيدي أحمد رفيق المرحوم رضوان كتخدا الجلفي ومنها حرصه على فعل الخير ومكارم الأخلاق وتقديم الزاد ليوم المعاد والصدقات الخفية والأفعال المرضية التي منها تفقد طلبة العلم الفقراء والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم وكان يشتري المصاحف والألواح الكثيرة ويفرقها بيد من يثق به على مكاتب أطفال المسلمين الفقراء معونة لهم على حفظ القرآن ويملأ الأسبلة للعطاش ولا يقبل من فلاحينه زيادة على المال المقرر ويعاون فقراءهم ويقرضهم التقاوى واحتياجات الزراعة وغيرها ويحسب لهم هداياهم من أصل المال وكان يتفقه على العلامة الشيخ محمد العقاد المالكي ويحضر دروسه في كل يوم وبعد وفاته لازم حضور الشيخ عبد العليم الفيومي وكان ينفق عليه وعلى عياله ويكسوهم ولم يزل سمح السجية بسام الثنية الى أن بغته الطاعون حالًا وكان موته ارتجالًا فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله وكان الله حسنة في صحائف الأيام والليالي وروضة تنبت الشكر في رياض المعالي. فلو بعت يومًا منه بالدهر كله لفكرت دهرًا ثانيًا في ارتجاعه. ومات أيضًا من بيتهم الأجل المكرم أحمد جلبي بن الأمير علي وكان شابًا لطيف الذات مليح ومات أيضًا من بيتهم الأمير عثمان بن عبد الله معتوق المرحوم محمد جربجي وكان من أكابر بيتهم وبقية السلف من طبقتهم ذا وجاهة وعقل وحشمة وجلالة قدر. ومات أيضًا من بيتهم الأمير رضوان صهر أحمد جلبي المذكور وكان إنسانًا لا بأس به أيضًا ومات من بيتهم عدد كثير من النساء والصبيان والجواري في تلك الأيام المبددة منهم ومن غيرهم عقد النظام. ومات الصنو الفريد والعقد النضيد الذكي النبيه من ليس له في الفضل شبيه صاحبنا الأكرم وعزيزنا الأفخم ابراهيم جلبي بن أحمد آغا البارودي نشأ مع أخويه علي ومصطفى في حجر والدهم في رفاهية وعز ولما مات والدهم في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف تزوجته والدتهم وهي ابنة ابراهيم كتخدا القازدغلي بمحمد خازندار زوجها وهو محمد آغا الذي اشتهر ذكره بعد ذلك فكفل أولاد سيده المذكورين وفتح بيتهم وعانى المترجم تحصيل الفضائل وطلب العلم ولازم حضور الدروس بالأزهر في كل يوم وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيوشي وفي المعقول على اليخ محمد الخشني والشيخ علي الطحان حتى أدرك من ذلك الحظ الأوفر وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسائل النقلية والعقلية وترونق بالفضائل وتحلى بالفواضل الى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنية وضرب ومات أيضًا بعده بيومين أخوه سيدي علي وكان جميل الخصائل مليح الشمائل رقيق الطباع يشنف بحسن ألفاظه الأسماع اخترمته المنية وحالت بساحة شبابه الرزية. ومات الصاحب الأمثل والأجل الأفضل حاوي المزايا المنزه عن النقائص والرزايا عبد الرحمن أفندي بن أحمد المعروف بالهلواتي كاتب كبير باب تفكشيان من أعيان أرباب الأقلام بديوان مصر كان اشتغل بطلب العلم ولازم حضور الأشياخ وحصل في المعقول والمنقول ما تميز به عن غيره من أهل صناعته مع حسن الأخلاق وجميل الطباع وحضر على الشيخ مصطفى الطائي كتاب الهداية في الفقه مشاركًا لنا وأخذ أيضًا الحديث عن السيد مرتضى وسمع معنا عليه كثيرًا من الأجزاء والمسلسلات والصحيحين وغير ذلك وألف حاشية على مراقي الفلاح واقتنى كتبًا نفيسة وكان يباحث ويناضل مع عدم الادعاء وتهذيب النفس والسكون والتؤدة والإمارة والسيادة الى أن أجاب الداعي ونعته النواعي واضمحل حال أبيه بعده وركبته الديون وجفاه الأخدان والمجنون وصار بحالة يرثى لها الشامت ويبكي حزنًا عليه من يسمع ذكره من الناعت الى أن توفي بعد بنحو سنتين. ومات الأمير المبجل والنبيه المفضل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى الأمير أحمد كتخدا صالح اشتراه سيده صغيرًا فتربى في الحريم وأقرأه القرآن وبعض متون الفقه وتعلم الفروسية وكان بيته موردًا للأفاضل فكان يكرمهم ويحترمهم ويتعلم منهم العلم ثم أعتقه وأنزله حاكمًا في بعض ضياعه ثم رقاه الى أن عمله رئيسًا في باب المتفرقة وتوجه أميرًا على طائفته صحبة الخزينة الى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة ثم عاد الى مصر وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيرًا وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع وأتقن فن رمي النشاب الى أن صار أستاذا فيه وانفرد في وقته في صنعة القسي والسهام والدهانات فلم يلحقه أهل عصره وأضر بعينيه وعالجهما كثيرًا فلم يفده فصبر واحتسب ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله ويجيد القسي تركيبًا وشدًا ولقد أتاه وهو في هذه الضرارة رجل من أهل الروم اسمه حسن فأنزله في بيته وعلمه هذه الصنعة حتى فاق في زمن قليل أقرانه وسلم له أهل عصره وسمع المترجم عن شيخنا المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه وحديثين مسلسلين بيوم عاشورًا تخريج السيد المذكور وأشياء أخر ضبطت عند كاتب الأسماء وأخذ الإجازة من الشيخ اسمعيل بن أبي المواهب الجلبي وكان عنده كتب نفيسة في كل فن رحمه الله. ومات الشاب اللطيف المهذب الظريف الذي يحكي بأدبه سنا الملك وابن العفيف محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب أبوه مولى اللقاسم الشرايبي مات أبوه في حداثته وكان مولد سنة أربع وستين ومائة وألف وكفله صهره سليمان بن محمد الكاتب أحد كتاب المقاطعة بالديوان ونشأ في الرفاهية والنعم وعانى طلب العلم فنال منه ما أخرجه من ربقة الجهل وتعلق بالعروض وأخذ عنه الشيخ محمد بن ابراهيم العوفي المالكي فبرع فيه ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم توفي في غرة شعبان من السنة. ومات الصنو الفريد والنادرة الوحيد النبيه اللبيب والمفرد العجيب الفاضل الناظم الناثر سيدي عثمان بن أحمد الصفائي المصري تقدم ذكره في ترجمة والده أحمد أفندي كاتب الروزنامة بديوان مصر ونشأ هو في ظل النعمة والرفاهية وقرأ النحو والمنطق على كل من الشيخ علي الطحان والشيخ مصطفى المرحومي حتى مهر فيهما وكان يباحث ويناضل ويناقش أهل العلم في المسائل العقلية والنقلية وقرأ علم العروض وأتقن نظم الشعر وجمع الظروف وكان فيه نوع من الخلاعة واللهو وله تخميس على البردة وأشعار كثيرة ولم يزل رافلًا في حلل السعادة حتى حلت بساحة شبابه الشهادة وتوفي مطعونًا بمليج وهو ذاهب لموسم المولد الأحمدي بطندتا في شهر رجب وقد ناهز الأربعين وحضروا به الى مصر محمولًا على بعير فغسل وكفن ودفن عند والده رحمه الله. ومات الخواجا المعظم والتاجر المكرم السيد أحمد ابن السيد عبد السلام المغربي الفاسي نشأ في حجر والده وتربى في العز والرفاهية حتى كبر وترشد وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وعامل واشتهر ذكره وعرف بين التجار ومات أبوه واستقر مكانه في التجارة عرفته الناس زيادة عن أبيه وصار يسافر الى الحجاز في كل سنة مقومًا مثل أبيه وبنى داره ووسعها وأضاف إليها دكة الحسبة التي بجوار الفحامين وأنشأ دارًا عظيمة أيضًا بخط الساكت بالأزبكية وانضوى إليه السيد أحمد المحروق وأحبه واتحد به اتحادًا كليًا وكان له أخ من أبيه بالحجاز يعرف بالعرايشي من أكابر التجار ووكلائهم المشهورين ذو ثروة عظيمة فتوفي وصادف وصول المترجم حينئذ الى الحجاز فوضع يده على ماله ودفاتره وشركاته وتزوج بزوجته وأخذ جواره وعبيده ورجع الى مصر واتسع حاله زيادة على ما كان عليه وعظم صيته وصار عظيم التجار وشاه البندر وسلم قياده وزمامه في الأخذ والعطاء وحساب الشركاء الى السيد أحمد المحروقي وارتاح إليه لحذقه ونباهته ونجابته وسعادة جده ولم يزل على ذلك حتى اخترمته المنية وحالت بينه وبين الأمنية وتوفي في شعبان مطعونا وغسل وكفن وصلي عليه بالمشهد الحسيني في مشهد حافل بعد العشاء الأخيرة في المشاعل ودفن عند أبيه بزاوية العربي بالقرب من الفحامين والتجأ السيد أحمد المحروقي الى السيد آغا البارودي كتخدا اسمعيل بك فسعى إليه وأقره مكانه وأقامه عوضه في كل شيء وتزوج بزوجاته وسكن داره واستولى على حواصله وبضائعه وأمواله ونما أمره من حينئذ وأخذ وأعطى ووهب وصانع الأمراء وأصحاب الحل والعقد حتى وصل الى ما وصل إليه وأدرك ما لم يدركه غيره فيما سمعنا ورأينا كما قيل: وإذا السعادة لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان ومات الأمير الكبير اسمعيل بك وأصله من مماليك ابراهيم كتخدا وانضوى الى علي بك بلوط قبان فجعله اشراقه وأقره ونوه بشأنه وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم وزوجه بهانم ابنة ابراهيم كتدخا وعمل لهما مهمًا عظيمًا ببركة الفيل شهرًا كاملًا في سنة أربع وسبعين كما تقدم ذكر ذلك وكان من المهمات الجسيمة والمواسم العظيمة التي لم يتفق نظيرها بعده بمصر ولم يزل منظورًا إليه في الإمارة مدة علي بك وأرسله في سرياته واعتمده في مهماته وبعثه الى سويلم بن حبيب بتجريدة فلم يزل يحاربه حتى هزمه وفر الى البحيرة فلحقه هناك ولم يزل يتبعه ويرصده حتى قتله وحضر برأسه الى مخدومه وذلك في أواخر سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف. وسافر الى الشام صحبة محمد بك أبي الذهب لمقاتلة عثمان باشا ابن العظم وأغاروا على البلاد الشامية وحاربوا يافا أربعة أشهر حتى ملكوها وسافر قبل ذلك في تجاريد الصعيد وحضر غالب مواقف الحروب مع محمد بك ومستقلًا الى أن بدت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك وخرج مع محمد بك الى الصعيد وجرى بينهما الدم بقتله أيوب بك فأخرج إليه علي بك جردة عظيمة احتفل بها احتفالًا زائدًا وأميرها المترجم فلما التقى الجمعان ألقى عصاه وخامر على مولاه وانضم بمن معه الى محمد بك فشد عضده وخان مخدومه وحصل ما حصل من تقلبهم واستيلائهم كما ذكر واستمر مع محمد بك يراعي حرمته ويقدمه على نفسه ولا يبرم أمرًا إلا بعد مشاورته ومراجعته وتقلد الدفتردارية وأميرًا على الحج سنتين بشهامة وسير حسن ولما مات محمد بك لم تطمح نفسه للتصدر في الرياسة والإمارة بل تركها لأتباعه وقنع بحاله وإقطاعه ولزم داره التي عمرها بالأزبكية فناكدوه وطمعوا فيما لديه وقصد مراد بك اغتياله فخرج الى خارج وتبعه المغرضون له ويوسف بك وغيره وحصل ما هو مسطر ومشروح في محله من تملكه وقتله يوسف بك واسمعيل بك الصغير بمساعدة العلوية ثم غدروا به حتى آل الأمر به الى الخروج الى البلاد الشامية وافتراق جمعه ثم سافر الى الروم مع بعض أتباعه ومماليكه وذهب منه غالب ما اجتمع لديه من الأموال وذهب الى اسلامبول فأقام بها مدة ثم نفوه الى شنق قلعة وخرج منها بحيلة تحيلها على حاكمها ثم ركب البحر الى درنة ووصل خبر ذلك الى الأمراء بمصر فخرج مراد بك ليقطع عليه الطريق الموصلة الى قبلي وأرصد له عيونًا ينتظرونه بالطريق وأقام على ذلك شهورًا فلم يقفوا له على خبر وهو يتنقل عند العربان حتى أنه اختفى عند بعضهم نيفًا وأربعين يومًا في مغارة ثم أنه تحيل وأرسل من ألقى الى مراد بك أنه مر من الجهة الفلانية بمعرفة الرصد المقيمين فحنق مراد بك وركب في الحال ليقطع عليه الطريق وتفرق الجمع من ذلك المكان فعند ذلك اجتاز اسمعيل بك ذلك الموضع وعداه في زي بعض العربان وخلص الى القضاء الموصل للبلاد القبلية وذهب مراد بك في نهاية مشواره فلم ير أثرًا لذلك الخبر فرجع الى المكان الذي عرفوه سلوكه فوجد المرابطين على ما هم عليه من التيقظ الى أن تحقق عنده أنه تحيل بذلك ومر وقت ارتحال مراد بك من ذلك الموضع فرجع بخفي حنين ولم يزل حتى كان ما كان ووصل حسن باشا على الصورة المتقدمة ورجع الى مصر وتملكها واستقل بإمارتها بعد ثغر به تسع سنين ومقاساته الشدائد وظن أن الوقت قد صفا له واستكثر من شراء المماليك واحترقت داره وبناها أحسن مما كانت عليه وحصن المدينة وسورها من عند طرا والجيزة وحصنها تحصينًا عظيمًا من الجبل الى البحر من الجهتين حتى أنه لما أصيب بالطاعون أحضر أمراءه وقال لعثمان بك طبل بحضرتهم أنت كبير القوم الباقية فافتح عينك وشد حيلك فإني حصنت لكم البلد وصيرتها بحيث لو ملكتها امرأة لم يقدر عليها عدو وتمرض يومين ومات في الثالث سادس عشر شعبان من السنة وكان أميرًا جليلًا كفؤًا للإمارة جهوري الصوت عظيم الهمة بعيد الغور كبير التدبير يحب الصلحاء والعلماء ويتأدب معهم ويواسيهم ويقبل شفاعتهم ويكرمهم وله فيهم اعتقاد عظيم حسن ولما مات غسل وكفن وصلي عليه في مصلى المؤمنين ودفن بتربة علي بك مع سيدهما ابراهيم بك كتخدا بالقبر من ضريح الإمام الشافعي بالقرافة ولم يفلح بعده خليفته عثمان بك وأضاع مملكته وسلمها لأخصامه وأخصام سيده. ومات الأمير رضوان بك وهو ابن أخت علي بك الكبير أمره وقلده الصنجقية وجعله من الأمراء الكبار فلما مات خاله واستقل بالمملكة محمد بك انزوى وارتفعت عنه الآمرية وأقام بطالًا هو وحسن بك الجداوي مدة أيام محمد بك فلما مات محمد بك وظهر بالإمارة ابراهيم بك ومراد بك لم يزل على خموله الى أن وقع التفاقم بينهم وبين اسمعيل بك فانضم هو وحسن بك الى اسمعيل بك وساعداه فرد لهما آمرياتهما ونوه بشأنهما ثم نافقا عليه وخذلاه عندما سافر معهما الى قبلي وكانا هما السبب في غربته المدة الطويلة كما ذكر ثم وقع لهما ما وقع مع المحمدية وذهبا الى الجهة القبلية وأقاما هناك فلما رجع اسمعيل بك من غيبته انضم إليهما ثانيًا ولم يزل معهما وافترق منهما المترجم وحضر الى مصر وانضم الى المحمدية ولما حضر حسن باشا وخرج معهم رجع ثانيًا بأمان واستمر بمصر حتى حضر اسمعيل بك وحسن بك فأقام معهم أميرًا ومتكلمًا وتصادق مع علي بك كتخدا الجاويشية وعقد معه المؤاخاة ونزل مرارًا الى الأقاليم وعسف بالبلاد ولما سافر حسن باشا وخلالهما الجو فجر وتجبر وصار يخطف الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم تعدى شره لكثير من الفقراء ولم يزل هذا شأنه حتى أطفأ صرصر الموت شعلته وحل بساحته الطاعون ولم يفلته وأراح الله منه العباد وكان أشقر خبيثًا. ومات الأمير الأصيل رضوان بك بن خليل بن ابراهيم بك بلفيا من بيت المجد والعز والسيادة والرياسة وبيتهم من البيوت الجلية القديمة الشهيرة بمصر ولم يكن بمصر بيت عريق في الإمارة والسيادة إلا بيتهم وبيت قصبة رضوان وجميع أمراء مصر تنتهي سلسلتهم إليهما وبيت القازدغلية أصل منشتهم ومغرس سيادتهم من بيت بلفيا كما تقدم لأن ابراهيم بك بلفيا جد المترجم مملوك مصطفى بك ومصطفى بك مملوك حسن آغا بلغيا وهو سيد مصطفى كتخدا القازدغلي ومصطفى هذا كان سراجًا عند حسن آغا ورقاه وأمره حتى جعله كتخذا باب مستحفظان ونما أمره وعظم شأنه وباض وأفرخ فجميع طائفة القازدغلية تنتهي نسبتهم إليه كما ذكر ذلك غير مرة ولما توفي خليل بك والد المترجم في سنة خمس وثمانين بالحجاز في إمارته على الحج وترك أخاه عبد الرحمن آغا وولده رضوان هذا ورجع بالحج عبد الرحمن آغا المذكور وبعد استقرارهم اجتمعت أعيان بيتهم وأرادوا تقليد عبد الرحمن آغا صنجقًا عوضًا عن أخيه فأبى ذلك فاتفقوا على تقليد ابن أخيه رضوان المذكور فكان كذلك وقلدوه الإمارة وفتح بيتهم وأحيا مآثرهم وانضم إليه أتباعهم وسار سيرًا حسنًا بعقل ورياسة لولا لثغة في لسانه وتقلد أمير الحج سنة 1192 وكان كفؤًا لها وطلع ورجع في أمن وراحة ورخاء ولم يزل في سيادته حتى توفي في هذه السنة واضمحل بيتهم بموته وماتت أعيانهم وعظماؤهم وخرب البيت بالكلية وانمحت آثارهم وانطفأت أنوارهم وبطلت خيراتهم وخمدت حركاتهم ومن جملة ما رأيته من خيراتهم وخمدت حركاتهم ومن جملة ما رأيته من خيراتهم في أيام رضوان بك هذا مائة قارئ من الحفظة يقرأون القرأن كل يوم في الأوقات الخمسة في كل وقت عشرون قارئًا وقس على ذلك. ومات الأمير سليمان بك المعروف بالشابوري وأصله من مماليك سليمان كاويش القازدغلي فهو خشداش حسن كتخدا الشعراوي تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وستين ونفي مع حسن كتخدا المذكور وأحمد جاويش المجنون كما تقدم في سنة ثلاث وسبعين فلما كانت أيام علي بك وورد من الديار الرومية طلب الإمداد من مصر للغز وأرسل علي بك فأحضر المترجم وقلده إمارة السفر فخرج بالعسكر في موكب على العادة القديمة وسافر بهم الى الديار الرومية وذلك سنة ثلاث وثمانين ورجع بعد مدة وأقام بطالًا محترمًا مرعي الجانب ينافق كبار الدولة وانضم الى مراد بك فكان يجالسه ويسامره ويكرمه المذكور فلما حضر حسن باشا كان هو من جملة المتآمرين فلما استقر اسمعيل بك في إمارة مصر اعتنى به وقدمه ونظمه في عداد ومات الأمير الجليل عبد الرحمن بك عثمان وهو مملوك عثمان بك الجرجاوي الذي قتل في واقعة قراميدان أيام حمزة باشا سنة تسع وسبعين كما تقدم فقلدوا عبد الرحمن هذا عوضه في الصنجقية فكان كفؤًا لها وكان متزوجًا ببنت الخواجا عثمان حسون التاجر العظيم المشهور المتوفى في أيام الأمير عثمان بك ذي الفقار وخلف منها ولده حسن بك وكان المترجم حسن السيرة سليم الباطن والعقيدة محبوب الطباع جميل الصورة وجيه الطلعة وكان محمد بك أبو الذهب يحبه ويجله ويعظمه ويقبل قوله ولا يرد شفاعته وكان يميل بطبعه الى المعارف ويحب أهل العلم والفضائل ويجيد لعب الشطرنج ومن مآثره أنه عمر جامع أبي هريرة الذي بالجيزة على الصفة التي هو عليها الآن وبنى بجانبه قصرًا وذلك في سنة ثمان وثمانين ولما أتمه وبيضه عمل به وليمة عظيمة وجمع علماء الأزهر في يوم الجمعة وبعد انقضاء الصلاة صعد شيخنا الشيخ علي الصعيدي على كرسي وأملى حديث من بنى لله مسجدًا بحضرة الجمع وكان شيخنا السيد محمد مرتضى حاضرًا وباقي العلماء والمشايخ والحقير في جملتهم وكنت حررت له المحراب على انحراف القبلة ثم انتقلنا الى القصر ومدت الأسمطة وبعدها الشربات والطيب وكان يومًا سلطانيًا توفي رحمه الله في شعبان بمنزله الذي بقيسون جوار بيت الشابوري ودفن عند سيده بالقرافة.
|