الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)
.الأصل الثالث: ترتيب الكلام والألفاظ: من صناعة إنشاء الكلام تركيب الكلام وترتيب الألفاظ، والنظر فيه من وجوه الوجه الأول في بيان فضل المعرفة بذلك ومسيس حاجة الكاتب إلى معرفته والإشارة إلى خفي سره وتوعر مسلكه قال أبو هلال العسكري: وأجناس الكلام المنظومة ثلاثة: الرسائل، والخطب، والشعر؛ جميعها يحتاج إلى حسن التأليف، وجودة التركيب؛ وحسن التأليف يزيد المعنى وضوحاً وشرحاً، ومع سوء التأليف ورداءة الرصف والتركيب شعبة من النعمية؛ فإذا كان المعنى سيئاً، ورصف الكلام رديئاً، لم يوجد له قبول، ولم تظهر عليه طلاوة. فإذا كان المعنى وسطاً ورصف الكلام جيداً، كان أحسن موقعاً وأطيب مستمعاً، فهو بمنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائقاً في المرأى، وإن لم يكن مرتفعاً نبيلاً؛ وإن أختل نظمه فضمت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وإن كان فائقاً ثميناً؛ وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكن من أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة إلا حذفاً لا يفسد الكلام، ولا يعمي المعنى، وتضم كل لفظة منها إلى شكلها وتضاف إلى وفقها؛ وسوء الرصف تقديم ما ينبغي تأخيره منها، وصرفا عن وجهها، وتغيير صيغتها، ومخالفة الاستعمال في نظمها.وقد قال العتابي: الألفاظ أجساد والمعاني أرواح، وإنما تراها بعيون القلوب، فإذا قدمت منها مؤخراً وأخرت منها مقدماً أفسدت الصورة وغيرت المعنى، كما أنه لو حول رأس إلى موضع يد أو يد إلى موضع رأس أو رجل لتحولت الخلقة، تغيرت الحلية.قال في الصناعتين: وقد أحسن في هذا التمثيل.قال الوزير ضياء الدين بن الأثير حرمه الله في المثل السائر: وهذا الموضع يضل في سلوك طريقه العلماء بصناعة صوغ الكلام من النظم والنثر، فكيف الجهال الذين لم تنفحهم منه رائحة! ومن الذي يؤتيه الله فطرة ناصعة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، حتى ينظر إلى أسرار ما يستعمله من الألفاظ فيضعها في مواضعها؟ وذلك أن تفاوت التفاضل لم يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها، إذ التركيب أعسر وأشق، ألا ترى أن ألفاظ القرآن الكريم من حيث انفرادها قد استعملتها العرب ومن بعدهم، وهي مع ذلك تفوق جميع كلامهم وتعلو عليه، وليس ذلك إلا لفضيلة التركيب. وانظر إلى قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين} وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس وأبلغ العالم مضاهاتها؛ على أن ألفاظها المفردة كثيرة الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز وأفحمت فيه البلاغة من حيث لاقت اللفظة الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة، وكذلك سائر الألفاظ إلى آخر الآية. ويشهد لذلك أنك لو أخذت لفظة منها من مكانها وأفردتها عن أخواتها لم تكن لابسة من الحسن والرونق ما لبسته في موضعها من الآية، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.قال ابن الأثير: ومن عجيب ذلك أنك ترى لفظين تدلان على معنى واحد. كلتاهما في الاستعمال على وزن واحد وعدة واحدة، إلا أنه لا يحسن استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه، بل يفرق بينهما في مواضع السبك؛ وهذا مما لا يدركه إلا من دق فهمه، وجل نظره. وإذا نظرت إلى قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه} وقوله تعالى: {رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً} رأيت ذلك عياناً، فإن الجوف والبطن في الآية الثانية ولم يستعمل أحدهما مكان الآخر، وكذلك قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} وقوله: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} فالقلب والفؤاد سواء في الدلالة وإن كانا مختلفين في الوزن، ولم يستعمل أحدهما موضع الآخر.ومما يجري هذا المجرى قول الأعرج م أبيات الحماسة:وقول أبي الطيب المتنبي: فلفظة الشهد ولفظة العسل كلاهما حسن مستعمل، وقد جاءت لفظة الشهد في بيت أبي الطيب أحسن من لفظة العسل في بيت الأعرج، على أن لفظة العسل قد وردت في القرآن دون لفظة الشهد فجاءت أحلى من الشهد في موضعها؛ وكثيراً ما تجد أمثال ذلك في أقوال الشعراء المفلقين وبلغاء الكتاب ومصاقع الخطباء، وتحتها دقائق ورموز، إذا علمت وقيس عليها كان صاحب الكلام قد انتهى في النظم والنثر إلى الغاية القصوى في وضع الألفاظ في مواضعها اللائقة بها.قال: وأعجب من ذلك أنك ترى اللفظة الواحدة تروقك في كلام، ثم تراها في كلام آخر فتكرهها؛ وقد جاءت لفظة في آي القرآن الكريم بهجة رائقة، ثم جاءت تلك اللفظة بعينها في كلام آخر فجاءت ركيكة نابية عن الذوق، بعيدة من الاستحسان؛ فمن ذلك لفظة يؤذي فإنها وردت في قوله تعالى: {إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم والله لا يستحي من الحق} فجاءت في غاية الحسن ونهاية الطلاوة، ووردت في قول أبي الطيب: فجاءن رثة مستهجنة، وإن كان البيت من أبيات المعاني الشريفة، وذلك لقوة تركيبها في الآية وضعفها تركيبها في بيت الشعر؛ والسبب في ذلك أن لفظة تؤذي إنما تحسن في الكلام إذا كانت مندرجة مع ما يأتي بعدها، متعلقة به كما في الآية الكريمة حيث قال: {إن ذلكم كان يؤذي النبي} وفي بيت المتنبي جاءت منقطعة ليس بعدها شيء تتعلق به حيث قال: ثم استأنف كلاماً آخر فقال: وقد جاءت هذه اللفظة بعينها في الحديث النبوي مضافة إلى كاف خطاب، فأخذت من المحاسن بزمامها، وأحاطت من الطلاوة بأطرافها؛ وذلك أنه لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل فرقاه فقال: «بسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك» فصارت إلى الحسن بزيادة حرف واحد، وهذا من السر الخفي الذي يدق فهمه. وعلى نهج لفظة يؤذي يد لفظة لي، فإنها لا تحسن إلا أن تكون متعلقة بما بعدها، ولذلك لحقها هاء السكت في قوله تعالى: {ما أغنى عني ماليه * هلك عني سلطانيه} لما لم يكن بعدها ما تتعلق به، بخلاف قوله: {إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة} فإنه لم تلحقها هاء السكت اكتفاء بما هي متعلقة به.ومما يجري مثل هذا المجرى لفظة القمل، فإنها قد وردت في قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم} فجاءت في غاية الحسن، ووردت في قول الفرزدق: فجاءت منحطة نازلة، وذلك لأنها قد جاءت في الآية مندرجة في ضمن كلام لم ينقطع الكلام عندها، وجاءت في البيت قافية انقطع الكلام عندها.هذا ملخص ما ذكره ابن الأثير، وقال: إنه لم يسبق إليه، وجعل الحاكم فيه الذوق السليم دون غيره. وعلى الجملة فلا نزاع في أن تركيب الألفاظ يعطي الكلام من القوة والضعف ما تزيد قيمة الألفاظ الفصيحة، ويرتفع به قدرها، أو يحط مقدارها عن درجة الفصاحة والحسن إلى رتبة القبح والاستهجان.الوجه الثاني في بيان ما يبنى عليه تركيب الكلام وترتيبه وله ركنان الركن الأول: أن يسلك في تركيبه سبيل الفصاحة والخروج عن اللكنة والهجنة.والفصاحة في المركب بأن يتصف بعد فصاحة مفرداته بصفات: الصفة الأولىأن يكون سليماً من ضعف التأليف بأن يكون تأليف أجزاء الكلام على القانون النحوي المشتهر فيما لبين معظم أصحابه حتى لا يمتنع عند الجمهور، وذلك كالإضمار قبل الذكر لفظاً أو معنى، نحو ضرب غلامه زيداً، فإنه غير فصيح وإن كان ما اتصل بالفاعل فيه ضمير المفعول به مما أجازه الأخفش، وتبعه ابن جني لشدة اقتضاء الفعل المفعول به كالفاعل، واستشهد بقوله: وقوله: وقوله: الصفة الثانية أن يكون سليماً من التعقيد وهو ألا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المعنى الذي يراد منه، وهو على ضربين:الضرب الأول: وهو الذي يسميه ابن الأثير: المعاظلة المعنوية، ألا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم أو تأخير، أو حذف، أو إضمار، أو غير ذلك مما يوجب صعوبة فهم المراد، وإن كان ثابتاً في الكلام، جارياً على القوانين، كقول الفرزدق في مدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك: أي وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه ويشبهه في الفضائل إلا مملكاً، أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح، فيكون الممدوح خال المملك، والمعنى أنه لا يماثل أحد هذا الممدوح الذي هو إبراهيم بن هشام إلا ابن أخته هشام، أفسده وعقد معناه، وأخرجه عن حد الفصاحة إلى حد اللكنة؛ وكذلك قوله في الوليد بن عبد الملك: يريد إلى ملك ما أم أبيه من محارب، وقوله: يريد نكن يا ذئب مثل من يصطحبان، وقوله: يريد أن خالد بن عبد الله كان قد ولي خراسان ووليها أسد بعده، فمدح خالداً بأنه كان سيفاً، بعد أن كان أسد أميرها، فكأنه يقول وليست خراسان بالبلدة التي كان خالد بها سيفاً إذ كان أسد أميرها.قال ابن الأثير: وعلى هذا التقدير ففي كان الثانية ضمير الشأن والحديث، والجملة بعدها خبر عنها، وقد قدم بعض ما إذ مضافة إليه وهو أسد عليها، وفي تقديم المضاف إليه أو شيء منه على المضاف من القبح مالا خفاء به. قال: وأيضاً فإن أسداً أحد جزأي الجملة المفسرة للضمير، والضمير لا يكون تفسيره إلا من بعده، ولو تقدم تفسيره قبله لما احتاج إلى تفسير، ولما سماه الكوفيون الضمير المجهول؛ وعلى نحو ذلك ورد قول الآخر: يريد فأصبحت بعد بهجتها قفراً كأن قلماً خط رسومها، فقدم خبر كان وهو خط عليها فجاء مختلاً مضطرباً.قال في المثل السائر: وهذا البيت من أقبح هذا النوع لأن معانيه قد تداخلت، وركب بعضها بعضاً؛ على أن ذلك قد وقع لجمع من فحول شعراء العرب؛ كقول امرئ القيس: يريد أخوا من لا أخوي له في الحرب؛ وقول النابغة: قال أبو هلال العسكري: وهذا البيت مستهجن جداً لأن المعنى تعمى فيه، يريد يثرن الثرى حتى يباشرن برده بالكلاكل إذا الشمس مجت ريقها، وقول أبي حية النميري: يريد كما خط الكتاب بكف يهودي يوماً يقارب أو يزيل؛ وقول ذي الرمة: يريد وهو من جنونه ذو أجاري؛ قال في الصناعتين: كأنه تخليط كلام مجنون أو هجر مبرسم؛ وقول الشماخ: يريد تخامص حافي الخيل في الوجي، الأمعز.قال أبو هلال العسكري: وليس للمحدث أن يجعل هذه الأبيات حجة ويبنى عليها فإنه لا يعذر في شيء منها، لإجماع الناس اليوم على مجانبة أمثالها واستجادة ما يضح من الكلام ويستبين، واسترذال ما يشكل منه ويستبهم؛ وقد كان عمر رضي الله عنه يمدح زهيراً بأنه لم يكن يعاظل بين الكلام.قال في المثل السائر: والفرزدق أكبر الشعراء تعاظلاً وتعقيداً في شعره، كأنه كان يقصد ذلك ويعتمده، لأن مثله لا يجيء إلا متكلفاً مقصوداً، وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، بدليل أن المقصود من الكلام معدوم في هذا النوع، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به، ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية والرومية وغيرهما.الضرب الثاني من التعقيد: ألا يكون يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد بخلل في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم بحسب اللغة إلى الثاني المقصود، لإيراد اللوازم البعيدة المفتقرة إلى الوسائط الكثيرة، مع خفاء القرائن الدالة على المقصود، كقول العباس بن الأحنف: يريد إني أطلب بعد الدار عنكم لتقربوا مني، وتسكب عيناي الدموع لتجمد وتكف الدمع بحصول التلاقي؛ والمعنى أني طبت نفساً بالبعد والفراق، ووطنت نفسي على مقاساة الأحزان والأشواق، وأتجرع الغصص، وأحتمل لأجلها حزناً يفيض الدموع من عيني، لأتسبب بذلك إلى وصل يدوم، ومسرة لا تزول، فتجمد عيني ويرقأ دمعي، فإن الصبر مفتاح الفرج؛ فكنى بسكب الدموع عن الكآبة والحزن، وهو ظاهر المعنى لأنه كثيراً ما يجعل دليلاً عليه، يقال: أبكاني الدهر وأضحكني بمعنى ساءني وسرني، وكنى بجمود العين عما يوجبه دوام التلاقي من الفرح والسرور؛ فإن المتبادر إلى الذهن من جمود العين بخلها بالدمع عند إرادة البكاء حال الحزن، بخلاف ما قصده الشاعر من التعبير به عن الفرح والسرور، وإن كانت حالة جمود الدمع مشتركة بين بخل العين بالدمع ند إرادة البكاء، وبين زمن السرور الذي لم يطلب فيه بكاء، وكذلك يجري القول في كل لفظ مشترك ينتقل الذهن فيه من أحد المعنيين إلى الآخر إذا لم يكن هناك قرينة تصرفه إلى أحدهما، كما صرح به الرماني وغيره، خصوصاً إذا كان أحد المعنيين الذي يدل عليه اللفظ المشترك مستقبحاً كما نبه عليه ابن الأثير في الكلام على فصاحة اللفظ المفرد؛ ألا ترى أن لفظة التعزير مشتركة بين التعظيم والإكرام، وبين الإهالة بسبب الخيانة التي لا توجب الحد من الضرب وغيره، والمعنيان ضدان، فحيث وردت معها قرينة صرفتها إلى معنى التعظيم جاءت حسنة رائقة، وكانت في أعلى درجات الفصاحة؛ وعلى نحو ذلك ورد قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} وقوله: {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه} الآية، فإنه لما ورد دمعها قرينة التوقير في الآية الأولى وقرينة الإيمان والنصر في الآية الثانية زال اللبس وحسن الموقع؛ ولو وردت مهملة بغير قرينة بإرادة المعنى الحسن لسبق الفهم إلى المعنى القبيح، كما لو قلت عزر القاضي فلاناً وأنت تريد أنه عظمه، فإنه لا يتبادر من ذلك إلى الفهم إلا أنه أهانه، وعلى هذا النهج يجري الحكم في الحسن والقبح مع القرينة وعدمها.قال ابن الأثير رحمه الله: فما ورد مع القرينة فجاء حسناً قول تأبط شراً: فإنه أضاف الجحر إلى اليوم فأزال عنه هجنة الاشتباه لأن الجحر يطلق على كل ثقب كجحر الحية واليربوع ونحوهما، وعلى المحل المخصوص من الحيوان، فإذا ورد مهملاً بغير قرينة تخصصه سبق إلى الفهم المعني القبيح لاشتهاره دون غيره. ومما ورد مهملاً بغير قرينة فجاء قبيحاً قول أبي تمام: فإن المتبادر إلى الأفهام من قوله وليس لي عقل أنه من العقل الذي هو ضد الجنون، ولو قال وليس لي عليك عقل لزال اللبس. قال: فيجب إذاً على صاحب هذه الصناعة أن يراعي في كلامه مثل هذا الموضع.الصفة الثالثة أن يكون الكلام سالماً من تنافر الكلمات وإن كانت مفرداته فصيحة وقد اختلف في معنى هذا التنافر على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أن المراد بتنافر الكلمات أن يكون في الكلام ثقل على اللسان ويعسر النطق به على المتكلم، وإليه ذهب السكاكي وغيره من علماء البيان.وهو على ضربين:الضرب الأول: أن يكون فيه بعض ثقل، كقول أبي تمام: فقوله أمدحه أمدحه فيه بعض الثقل على اللسان في النطق، وذلك أن الحاء والهاء متقاربان في المخرج، وقد اجتمعا في قوله أمدحه، ثم تكررت الكلمة في البيت مع تقارب مخرج الحرفين فثقلت بعض الثقل.وأول من نبه على ذلك الأستاذ ابن العميد رحمه الله.ومما يحكى في ذلك: أن الصاحب بن عباد أنشد هذا البيت بحضرة ابن العميد، فقال له ابن العميد: هل تعرف في هذا البيت شيئاً من الهجنة؟ فقال: نعم، مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل المدح بالذم والهجاء، فقال له ابن العميد: غير هذا أريد، قال: لا أرى غير ذلك. فقال ابن العميد: هذا التكرير في أمدحه، أمدحه مع الجمع بين الحاء والهاء وهما من حروف الحلق خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر، فاستحسن الصاحب بن عباد ذلك.قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح تلخيص المفتاح: ولا يجوز أن يراد الثقل في لفظة أمدحه دون تكرار، فإن مثل ذلك واقع في التنزيل نحو قوله تعالى: {فسبحه} والقول باشتمال القرآن على كلام غير فصيح مما لا يجترئ عليه المؤمن.الضرب الثاني: ما كان شديد الثقل بحيث يضرب لسان المتكلم عند إرادة النطق به، كقوله: قال في عجائب المخلوقات: إن من الجن نوعاً يقال له الهاتف، فصاح واحد منهم على حرب بن أمية فمات، فقال ذلك الجني هذا البيت. قال المسعودي في مروج الذهب: والدليل على أنه من شعر الجن أمران: أحدهما الرواية، والثاني أنه لا يقوله أحد ثلاث مرات متواليات إلا تعتع فيه.قال ضياء الدين بن الأثير: والسبب في ثقل البيت تكرير حرفي الباء والراء فيه، فهذه الباءات والراءات فيه كأنها سلسلة ولا خفاء بما في ذلك من الثقل. قال: وكذلك يجري الحكم في كل ما تكرر فيه حرف أو حرفان؛ إلا أنه لم يطلق على ذلك اسم التنافر، وجعل التنافر قسماً مستقلاً برأسه كما سيأتي، وعد هذا من أنواع المعاظلة اللفظية؛ ثم ذكر م أمثلته قول الحريري في مقاماته: وقول كشاجم: وقول الآخر: وقول المتنبي: وعاب بيت الحريري لتكرر العين فيه في قوله: وعاب البيت الثاني من بيت كشاجم لتكرر الكاف فيه في كف وكل الأولى وكل الثانية، وقال: هذا البيت يحتاج الناطق بركار يضعه في شدقه حتى يديره له؛ وعاب البيت الذي يليه لتكرر الميم فيه في أوائل الكلمات، وقال: هذه الميمات كأنها عقد، متصلة بعضها ببعض، وعاب بيت المتنبي لتكرر الجيم والراء في أكثر كلماته، وقال: هذا وأمثاله إنما يعرض لقائله في نوبة الصرع التي تنوبه في بعض الأيام. قال: وكان بعض أهل الأدب من أهل عصرنا يستعمل هذا القسم من المعاظلة كثيراً في كلامه نثراً ونظماً، وذلك لعدم معرفته لسلوك الطريق، كقوله في وصف رجل سخي: أنت المريح كبد الريح، والمليح إن تجهم المليح بالتكليح، عند سائل يلوح، بل تفوق إذ تروق مرأى يوح، يا مغبوق كأس الحمد، يا مصبوح ضاق عن نداك اللوح، وببابك المفتوح يستريح ويريح ذو التبريح، ويرفه الطليح. فأنظر إلى حرفي الراء والحاء كيف لزمهما في كل لفظه من هذه الألفاظ فجاء على ما تراه من الثقل والغثاثة.ثم قال: واعلم أن العرب الذين هم الأصل في هذه اللغة قد عدلوا عن تكرير الحروف في كثير من كلامهم، وذاك أنه إذا تكرر الحرف عندهم أدغموه استحساناً، فقالوا في جعل لك: جعلك، وفي تضربونني تضربوني، وكذلك قالوا: استعد فلان للأمر إذا تأهب له، والأصل فيه استعدد، واستتب الأمر إذا تهيأ والأصل فيه استتبب، وأشباه هذا كثير في كلامهم حتى إنهم لشدة كراهتهم لتكرير الحروف أبدلوا الحرفين المكررين حرفاً آخر غيره، فقالوا: أمليت الكتاب، والأصل فيه أمللت، فأبدلوا اللام ياء طلباً للخفة وفراراً من الثقل، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في اللفظة الواحدة فما ظنك بالألفاظ الكثيرة التي يتبع بعضها بعضاً.قلت: ليس تكرار الحروف مما يوجب التنافر مطلقاً كما يقتضيه كلامه بل بحسب التركيب، فقد تتكرر الحروف وتترادف في الكلمات المتتابعة مع القطع بفصاحتها وخفتها على اللسان وسهولة النطق بها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} كيف اجتمع فيه ست عشرة ميماً في آية واحدة، قد تلاصق منها أربع ميمات في موضع وميمان في موضع، مع ما اشتملت عيه من الطلاوة والرونق الذي ليس في قدرة البشر الإتيان بمثله، والله أعلم.المذهب الثاني: أن المراد بتنافر الكلمات أن تكون أجزاء الكلام غير متلائمة، ومعانيه غير متوافقة، بأن يكون عجز البيت أو القرينة غير ملائم لصدره، أو البيت الثاني غير مشاكل للبيت الأول، وعليه جرى العسكري في الصناعتين. فمما اختلفت في أجزاء البيت الواحد قول السموأل: فليس بين قوله ما في نصابنا كهام وقوله فنحن كماء المزن مناسبة لأن المراد بالكهام الذي لا غناء به ولا فائدة فيه، يقال قوم كهام أي لا غناء عندهم، ورجل كهام أي مسن، كذلك سيف كهام أي كليل، ولسان كهام أي عيي، وفرس كهام أي بطيء، فهو يصف قومه بالنجدة والبأس، ونه ليس فيهم من لا يعني، وماء المزن إنما يحسن في وصف الجود والكرم. قال في الصناعتين: ولو قال: ونحن ليوث الحرب وأولو الصرامة والنجدة، ما في نصابنا كهام، لكان الكلام مستوياً، أو فنحن كماء المزن صفاء أخلاق وبذل أكف، لكان جيداً.ومن ذلك قول طرفة: فالمصراع الثاني من البيت غير مشاكل لصورة المصراع الأول وإن كان المعنى صحيحاً لأنه أراد: ولست بحلال التلاع مخافة السؤال ولكنني أنزل الأمكنة المرتفعة لينتأبوني وأرفدهم، وهذا وجه الكلام، فلم يعبر عنه تعبيراً صحيحاً، ولكنه خلطه وحذف منه حذفاً كثيراً فصار كالمتنافر؛ وأدواء الكلام كثيرة.ومنه قول الأعشى: فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله؛ وعلى نحو ذلك ورد قول عنترة: فليس قوله: بالأخبار هش مولع من صفة جناحيه ولحييه؛ وقريب منه قول أبي تمام: فليس النصف الثاني من النصف الأول في شيء؛ وكذلك قول الطالبي: فلا مناسبة بين صدر البيت وعجزه بوجه.وعد بعض الأدباء من هذا النوع قول أمرئ القيس: وقال لو وضع مصراع كل بيت من هذين البيتين في موضع الآخر لكان أحسن وأدخل في استواء النسج، فكان يقال: لأن ركوب الجواد مع ذكر كرور الخيل أجود، وذكر الخمر مع ذكر الكواعب أحسن.قال في الصناعتين: قال أبو أحمد: والذي جاء به امرؤ القيس هو الصحيح لأن العرب تضع الشيء مع خلافه، فيقولون: الشدة والرخاء، والبؤس والنعيم، ونحو ذلك. وكذلك كل ما يجري هذا المجرى.قال أبو هلال العسكري: أخبرني أبو أحمد قال: كنت أنا وجماعة من أحداث بغداد ممن يتعاطى الأدب نختلف إلى مدرك نتعلم منه الشعر، فقال لنا يوماً: إذا وضعتم الكلمة مع لفقها كنتم شعراء، ثم قال: أجيزوا هذا البيت: فأجازه كل واحد منا بشيء فلم يرضه فقلت أنا: فقال: هذا هو الجيد المختار.قال: وأخبرني أبو أحمد الشطني قال: حدثنا أبو العباس بن عربي، قال: حدثنا حماد بن يزيد بن جبلة، قال: دفن مسلمة رجلاً من أهله ثم قال: ثم قال لبعضهم: أجز فقال: فقال مسلمة: لم تصنع شيئاً، ثم قال لآخر: أجز فقال: فقال: لم تصنع شيئاً، ثم قال لآخر: أجز فقال: فقال: الآن تم البيت؛ وأشباه ذلك ونظائره كثيرة.ومما اختلف فيه البيت الأول والثاني قول ابن هرمة: وقول الفرزدق: كان ينبغي أن يكون بيت ابن هرمة الأول مع بيت الفرزدق الثاني، وبيت الفرزدق الأول مع بيت ابن هرمة الثاني، فيقال في الأول: مع تغيير إحدى القافيتين، ويقال في الثاني: مع تغيير إحدى القافيتين حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً.المذهب الثالث: أن المراد بتنافر الكلمات أن تذكر لفظة أو ألفاظاً يكون غيرها مما في معناها أولى بالذكر، فتجيء الكلمة غير لائقة بمكانها، وهو ما أصطلح عليه ابن الأثير في المثل السائر. وهو على ضربين:الضرب الأول: ما يوجد منه في اللفظة الواحدة فيمكن تبديله بغيره مما هو في معناه سواء كان ذلك الكلام نظماً أو نثراً؛ وهو على أنواع شتى: منها فك الإدغام في غير موضع فكه، كقول ابن أم صاحب: ففك الإدغام في ضننوا، وكان الأحسن أن يقال: وإن ضنوا أي بخلوا.وعلى حد ذلك ورد قول المتنبي: فلو أدغم لجاءت اللفظة في مكانها غير قلقة ولا نافرة، وكذلك كل ما جاء على هذا النهج فلا يحسن أن يقال: بل الثوب فهو بالل، ولا سل السيف فهو سالل، ولا هم بالأمر فهو هامم، ولا خط الكتاب فهو خاطط، ولا حن إلى كذا فهو حانن، وهذا لو عرض على من لا ذوق له أدركه، فكيف من له ذوق صحيح كأبي الطيب؟ لكن لا بد لكل جواد من كبوة.ومنها زيادة حرف في غير موضعه كقول دعبل: فالفاء في قوله فاشكر زائدة في غير محلها، نافرة عن مكانها.قال الوزير ضياء الدين بن الأثير: أنشدني بعض الأدباء هذا البيت فقلت له: عجز هذا البيت حسن، وأما صدره فقبيح لأن سبكه قلق نافر، والفاء في قوله فاشكر كأنها ركبة البعير، وهي في زيادة الكرش، فقال: لهذه الفاء في كتاب الله تعالى أشباه كقوله تعالى: {يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر} فقلت له: بين هذه الفاء وتلك فرق ظاهر يدرك بالعلم أولاً وبالذوق ثانياً، أما العلم فإن قوله: {قم فأنذر} وهي مثل قولك: امش فأسرع، وقل فأبلغ، وليست الفاء التي في قول دعبل: شفيعك فاشكر من هذا القبيل، بل هي زائدة ولا موضع لها، وإنما نسبتها أن يقال: ربك أو ثيابك فطهر من غير تقدم معطوف عليه، وحاشا فصاحة القرآن من ذلك. فأذعن بالتسليم ورجع إلى الحق. قال: ومثل هذه الدقائق التي ترد في الكلام نظماً كان أو نثراً لا يتفطن لها إلا الراسخ في علم الفصاحة.ومنها وصل همزة القطع في الشعر وإن كان ذلك جائزاً فيه بخلاف النثر كقول أبي تمام: فقوله من أجله يوصل همزة القطع من الكلام النافر؛ وعلى حده ورد قول أبي الطيب: فقوله لا الانتظار بوصل همزة الانتظار كلام نافر.ومنها قطع همزة الوصل في الشعر أيضاً وإن كان جائزاً فيه كقول جميل: وقوله أيضاً: فقطع ألف الوصل في لفظ الاثنين في البيت الأول والثاني.ومنها أن يفرق بين الموصوف والصفة بضمير من تقدم ذكره كقول البحتري: تقديره من قلبي المتعلق بها، فلما فصل بين الموصوف الذي هو قلبي والصفة التي هي المتعلق بالضمير الذي هو بها قبح ذلك، ولو قال: من قلب بها متعلق لزال ذلك القبح وذهبت تلك الهجنة. ونحو ذلك.
|