الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*1*المجلد السابع *2*بقية كِتَاب الْمَنَاقِبِ *3* وَمَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ الشرح: قوله: (باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي بطريق الإجمال ثم التفصيل. أما الإجمال فيشمل جميعهم، لكنه اقتصر فيه على شيء مما يوافق شرطه. وأما التفصيل فلمن ورد فيه شيء بخصوصه على شرطه. وسقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر وحده. قوله: (ومن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه) يعني أن اسم صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مستحق لمن صحبه أقل ما يطلق عليه اسم صحبة لغة وإن كان العرف يخص ذلك ببعض الملازمة. ويطلق أيضا على من رآه رؤية ولو على بعد. وهذا الذي ذكره البخاري هو الراجح، إلا أنه هل يشترط في الرائي أن يكون بحيث يميز ما رآه أو يكتفي بمجرد حصول الرؤية؟ محل نظر، وعمل من صنف في الصحابة يدل على الثاني، فإنهم ذكروا مثل محمد بن أبي بكر الصديق، وإنما ولد قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثة أشهر وأيام، كما ثبت في الصحيح أن أمه أسماء بنت عميس ولدته في حجة الوداع قبل أن يدخلوا مكة، وذلك في أواخر ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، ومع ذلك فأحاديث هذا الضرب مراسيل، والخلاف الجاري بين الجمهور وبين أبي إسحاق الإسفرايني ومن وافقه على رد المراسيل مطلقا حتى مراسيل الصحابة لا يجري في أحاديث هؤلاء لأن أحاديثهم لا من قبيل مراسيل كبار التابعين ولا من قبيل مراسيل الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مما يلغز به فيقال: صحابي حديثه مرسل لا يقبله من يقبل مراسيل الصحابة. ومنهم من بالغ فكان لا يعد في الصحابة إلا من صحب الصحبة العرفية، كما جاء عن عاصم الأحول قال: " رأى عبد الله بن سرجس رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير أنه لم يكن له صحبة " أخرجه أحمد، هذا مع كون عاصم قد روى عن عبد الله بن سرجس هذا عدة أحاديث، وهي عند مسلم وأصحاب السنن، وأكثرها من رواية عاصم عنه، ومن جملتها قوله: إن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر له. فهذا رأي عاصم أن الصحابي من يكون صحب الصحبة العرفية؛ وكذا روي عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يعد في الصحابة إلا من أقام مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة فصاعدا أو غزا غزوة فصاعدا، والعمل على خلاف هذا القول لأنهم اتفقوا على عد جمع جم في الصحابة لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إلا في حجة الوداع، ومن اشترط الصحبة العرفية أخرج من له رؤية أو من اجتمع به لكن فارقه عن قرب، كما جاء عن أنس أنه قيل له: هل بقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غيرك؟ قال: لا، مع أنه كان في ذلك الوقت عدد كثير ممن لقيه من الأعراب. ومنهم من اشترط في ذلك أن يكون حين اجتماعه به بالغا، وهو مردود أيضا لأنه يخرج مثل الحسن بن علي ونحوه من أحداث الصحابة، والذي جزم به البخاري هو قول أحمد والجمهور من المحدثين وقول البخاري " من المسلمين " قيد يخرج به من صحبه أو من رآه من الكفار، فأما من أسلم بعد موته منهم فإن كان قوله " من المسلمين " حالا خرج من هذه صفته وهو المعتمد. ويرد على التعريف من صحبه أو رآه مؤمنا به ثم ارتد بعد ذلك ولم يعد إلى الإسلام فإنه ليس صحابيا اتفاقا، فينبغي أن يزاد فيه " ومات على ذلك". وقد وقع في مسند أحمد حديث ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو ممن أسلم في الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وحدث عنه بعد موته ثم لحقه الخذلان فلحق في خلافة عمر بالروم وتنصر بسبب شيء أغضبه، وإخراج حديث مثل هذا مشكل، ولعل من أخرجه لم يقف على قصة ارتداده والله أعلم. فلو ارتد ثم عاد إلى الإسلام لكن لم يره ثانيا بعد عوده فالصحيح أنه معدود في الصحابة لإطباق المحدثين على عد الأشعث بن قيس ونحوه ممن وقع له ذلك، وإخراجهم أحاديثهم في المسانيد، وهل يختص جميع ذلك ببني آدم أو يعم غيرهم من العقلاء؟ محل نظر، أما الجن فالراجح دخولهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قطعا، وهم مكلفون، فيهم العصاة والطائعون، فمن عرف اسمه منهم لا ينبغي التردد في ذكره في الصحابة وإن كان ابن الأثير عاب ذلك على أبي موسى فلم يستند في ذلك إلى حجة. وأما الملائكة فيتوقف عدهم فيهم على ثبوت بعثته إليهم، فإن فيه خلافا بين الأصوليين، حتى نقل بعضهم الإجماع على ثبوته، وعكس بعضهم، وهذا كله فيمن رآه وهو في قيد الحياة الدنيوية، أما من رآه بعد موته وقبل دفنه فالراجح أنه ليس بصحابي وإلا لعد من اتفق أن يرى جسده المكرم وهو في قبره المعظم ولو في هذه الأعصار، وكذلك من كشف له عنه من الأولياء فرآه كذلك على طريق الكرامة، إذ حجة من أثبت الصحبة لمن رآه قبل دفنه أنه مستمر الحياة، وهذه الحياة ليست دنيوية وإنما هي أخروية لا تتعلق بها أحكام الدنيا، فإن الشهداء أحياء ومع ذلك فإن الأحكام المتعلقة بهم بعد القتل جارية على أحكام غيرهم من الموتى، والله أعلم. وكذلك المراد بهذه الرؤية من اتفقت له ممن تقدم شرحه وهو يقظان، أما من رآه في المنام وإن كان قد رآه حقا فذلك مما يرجع إلى الأمور المعنوية لا الأحكام الدنيوية فلذلك لا يعد صحابيا ولا يجب عليه أن يعمل بما أمره به في تلك الحالة والله أعلم. وقد وجدت ما جزم به البخاري من تعريف الصحابي في كلام شيخه علي بن المديني، فقرأت في " المستخرج لأبي القاسم بن منده " بسنده إلى أحمد بن سيار الحافظ المروزي قال: سمعت أحمد بن عتيك يقول قال علي بن المديني: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بسطت هذه المسألة فيما جمعته من علوم الحديث، وهذا القدر في هذا المكان كاف. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيَقُولُونَ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُونَ نَعَمْ فَيُفْتَحُ لَهُمْ الشرح: حديث جابر بن عبد الله عن أبي سعيد، وهو من رواية صحابي عن صحابي. قوله: (يأتي على الناس زمان فيغزو فئام) بكسر الفاء ثم تحتانية بهمزة وحكي فيه ترك الهمزة أي جماعة، وقد تقدم ضبطه في " باب من استعان بالضعفاء " في أوائل الجهاد، ويستفاد منه بطلان قول من ادعى في هذه الأعصار المتأخرة الصحبة لأن الخبر يتضمن استمرار الجهاد والبعوث إلى بلاد الكفار وأنهم يسألون: هل فيكم أحد من أصحابه؟ فيقولون لا، وكذلك في التابعين وفي أتباع التابعين، وقد وقع كل ذلك فيما مضى وانقطعت البعوث عن بلاد الكفار في هذه الأعصار، بل انعكس الحال في ذلك على ما هو معلوم مشاهد من مدة متطاولة ولا سيما في بلاد الأندلس، وضبط أهل الحديث آخر من مات من الصحابة، وهو على الإطلاق، أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي كما جزم بن مسلم في صحيحه، وكان موته سنة مائة وقيل: سنة سبع ومائة وقيل: سنة عشر ومائة، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهر: " على رأس مائة سنة لا يبقى على وجه الأرض ممن هو عليها اليوم أحد " ووقع في رواية أبي الزبير عن جابر عند مسلم ذكر طبقة رابعة ولفظه " يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيوجد الرجل فيفتح لهم، ثم يبعث البعث الثاني فيقولون انظروا - إلى أن قال - ثم يكون البعث الرابع " وهذه الرواية شاذة، وأكثر الروايات مقتصر على الثلاثة كما سأوضح ذلك في الحديث الذي بعده. ومثله حديث واثلة رفعه " لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصاحبني " الحديث أخرجه ابن أبي شيبة وإسناده حسن. الحديث: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ سَمِعْتُ زَهْدَمَ بْنَ مُضَرِّبٍ سَمِعْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ الشرح: قوله: (حدثنا إسحاق) هو ابن راهويه وبذلك جزم ابن السكن وأبو نعيم في " المستخرج " والنضر هو ابن شميل، وأبو جمرة بالجيم والراء صاحب ابن عباس وحدث هنا عن تابعي مثله. قوله: (خير أمتي قرني) أي أهل قرني، والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة، ويقال إن ذلك مخصوص بما إذا اجتمعوا في زمن نبي أو رئيس يجمعهم على ملة أو مذهب أو عمل، ويطلق القرن على مدة من الزمان، واختلفوا في تحديدها من عشرة أعوام إلى مائة وعشرين لكن لم أر من صرح بالسبعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل. وذكر الجوهري بين الثلاثين والثمانين، وقد وقع في حديث عبد الله بن بسر عند مسلم ما يدل على أن القرن مائة وهو المشهور. وقال صاحب المطالع: القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد، وثبتت المائة في حديث عبد الله بن بسر وهي ما عند أكثر أهل العراق، ولم يذكر صاحب " المحكم " الخمسين وذكر من عشر إلى سبعين ثم قال: هذا هو القدر المتوسط من أعمار أهل كل زمن، وهذا أعدل الأقوال وبه صرح ابن الأعرابي وقال: إنه مأخوذ من الأقران، ويمكن أن يحمل عليه المختلف من الأقوال المتقدمة ممن قال إن القرن أربعون فصاعدا، أما من قال إنه دون ذلك فلا يلتئم على هذا القول والله أعلم. والمراد بقرن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحابة، وقد سبق في صفة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: " وبعثت في خير قرون بني آدم " وفي رواية بريدة عند أحمد " خير هذه الأمة القرن الذين بعثت فيهم " وقد ظهر أن الذي بين البعثة وآخر من مات من الصحابة مائة سنة وعشرون سنة أو دونها أو فوقها بقليل على الاختلاف في وفاة أبي الطفيل، وإن اعتبر ذلك من بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيكون مائة سنة أو تسعين أو سبعا وتسعين، وأما قرن التابعين فإن اعتبر من سنة مائة كان نحو سبعين أو ثمانين، وأما الذين بعدهم فإن اعتبر منها كان نحوا من خمسين، فظهر بذلك أن مدة القرن تختلف باختلاف أعمار أهل كل زمان والله أعلم. واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومائتين، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رءوسها، وامتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا، ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن. وظهر قوله صلى الله عليه وسلم "ثم يفشو الكذب " ظهورا بينا حتى يشمل الأقوال والأفعال والمعتقدات والله المستعان. قوله: (ثم الذين يلونهم) أي القرن الذي بعدهم وهم التابعون (ثم الذين يلونهم) وهم أتباع التابعين، واقتضى هذا الحديث أن تكون الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين، لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلى المجموع أو الأفراد؟ محل بحث، وإلى الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر، والذي يظهر أن من قاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في زمانه بأمره أو أنفق شيئا من ماله بسببه لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان، وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجه من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) الآية. واحتج ابن عبد البر بحديث " مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره " وهو حديث حسن له طرق قد يرتقى بها إلى الصحة، وأغرب النووي فعزاه في فتاويه إلى مسند أبي يعلى من حديث أنس بإسناد ضعيف، مع أنه عند الترمذي بإسناد أقوى منه من حديث أنس، وصححه ابن حبان من حديث عمار، وأجاب عنه النووي بما حاصله: أن المراد من يشتبه عليه الحال في ذلك من أهل الزمان الذين يدركون عيسى ابن مريم عليه السلام ويرون في زمانه من الخير والبركة وانتظام كلمة الإسلام ودحض كلمة الكفر، فيشتبه الحال على من شاهد ذلك أي الزمانين خير، وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون قرني " والله أعلم. وقد روى ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير - ثلاثا - ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها " وروى أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه " تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم " وهو شاهد لحديث " مثل أمتي مثل المطر"، واحتج ابن عبد البر أيضا بحديث عمر رفعه " أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني " الحديث أخرجه الطيالسي وغيره، لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه. وروى أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال: " قال أبو عبيدة: يا رسول الله، أأحد خير منا؟ أسلمنا معك، وجاهدنا معك. قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " وإسناده حسن وقد صححه الحاكم. واحتج بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن كانوا أيضا عند ذلك غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه " بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء " وقد تعقب كلام ابن عبد البر بأن مقتضى كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام ابن عبد البر ليس على الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية. نعم والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة أو النصرة وضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده، فظهر فضلهم. ومحصل النزاع يتمحض فيمن لم يحصل له إلا مجرد المشاهدة كما تقدم، فإن جمع بين مختلف الأحاديث المذكورة كان متجها، على أن حديث " للعامل منهم أجر خمسين منكم " لا يدل على أفضلية غير الصحابة على الصحابة، لأن مجرد زيادة الأجر لا يستلزم ثبوت الأفضلية المطلقة، وأيضا فالأجر إنما يقع تفاضله بالنسبة إلى ما يماثله في ذلك العمل فأما ما فاز به من شاهد النبي صلى الله عليه وسلم من زيادة فضيلة المشاهدة فلا يعدله فيها أحد، فبهذه الطريق يمكن تأويل الأحاديث المتقدمة، وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة على لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ " قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا "؟ الحديث أخرجه الطبراني وإسناد هذه الرواية أقوى من إسناد الرواية المتقدمة، وهي توافق حديث أبي ثعلبة، وقد تقدم الجواب عنه والله أعلم. قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة) وقع مثل هذا الشك في حديث ابن مسعود وأبي هريرة عند مسلم، وفي حديث بريدة عند أحمد، وجاء في أكثر الطرق بغير شك، منها عن النعمان بن بشير عند أحمد، وعن مالك عند مسلم عن عائشة " قال رجل: يا رسول الله أي الناس خير؟ قال: القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث " ووقع في رواية الطبراني وسمويه ما يفسر به هذا السؤال، وهو ما أخرجاه من طريق بلال بن سعد بن تميم عن أبيه قال قلت: يا رسول الله أي الناس خير؟ فقال: " أنا وقرني " فذكر مثله. وللطيالسي من حديث عمر رفعه " خير أمتي القرن الذي أنا منهم، ثم الثاني، ثم الثالث " ووقع في حديث جعدة بن هبيرة عند ابن أبي شيبة والطبراني إثبات القرن الرابع ولفظه " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الآخرون أردأ " ورجاله ثقات، إلا أن جعدة مختلف في صحبته والله أعلم. قوله: (ثم إن بعدهم قوما) كذا للأكثر، ولبعضهم " قوم " فيحتمل أن يكون من الناسخ على طريقة من لا يكتب الألف في المنصوب، ويحتمل أن تكون " إن " تقريرية بمعنى نعم وفيه بعد وتكلف. واستدل بهذا الحديث على تعديل أهل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول على الغالب والأكثرية، فقد وجد فيمن بعد الصحابة من القرنين من وجدت فيه الصفات المذكورة المذمومة لكن بقلة، بخلاف من بعد القرون الثلاثة فإن ذلك كثر فيهم واشتهر، وفيه بيان من ترد شهادتهم وهم من اتصف بالصفات المذكورة، وإلى ذلك الإشارة بقوله: " ثم يفشو الكذب " أي يكثر. واستدل به على جواز المفاضلة بين الصحابة قاله المازري، وقد تقدم باقي شرحه في الشهادات. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ الشرح: حديث ابن مسعود في المعنى وفد تقدم في الشهادات سندا ومتنا، وتقدم من شرحه هناك ما يتعلق بالشهادات، والله أعلم. *3* مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ التَّيْمِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ وَقَالَ اللَّهُ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا قَالَتْ عَائِشَةُ وَأَبُو سَعِيدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ الشرح: قوله: (باب مناقب المهاجرين وفضلهم) سقط لفظ " باب " من رواية أبي ذر، والمراد بالمهاجرين من عدا الأنصار ومن أسلم يوم الفتح وهلم جرا، فالصحابة من هذه الحيثية ثلاثة أصناف، والأنصار هم الأوس والخزرج وحلفاؤهم ومواليهم. قوله: (منهم أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة التيمي) هكذا جزم بأن اسم أبي بكر عبد الله وهو المشهور، ويقال كان اسمه قبل الإسلام عبد الكعبة وكان يسمى أيضا عتيقا، واختلف هل هو اسم له أصلي أو قيل له ذلك لأنه ليس في نسبه ما يعاب به أو لقدمه في الخير وسبقه إلى الإسلام أو قيل له ذلك لحسنه أو لأن أمه كان لا يعيش لها ولد فلما ولد استقبلت به البيت فقالت اللهم هذا عتيقك من الموت أو لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بأن الله أعتقه من النار، وقد ورد في هذا الأخير حديث عن عائشة عند الترمذي، وآخر عن عبد الله بن الزبير عند البزار، وصححه ابن حبان وزاد فيه " وكان اسمه قبل ذلك عبد الله بن عثمان " وعثمان اسم أبي قحافة لم يختلف في ذلك كما لم يختلف في كنية الصديق ولقب الصديق لسبقه إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: كان ابتداء تسميته بذلك صبيحة الإسراء. وروى الطبراني من حديث علي " أنه كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق " رجاله ثقات. وأما نسبه فهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في مرة بن كعب، وعدد آبائهما إلى مرة سواء، وأم أبي بكر سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك بن عامر بن عمرو المذكور، أسلمت وهاجرت، وذلك معدود من مناقبه، لأنه انتظم إسلام أبويه وجميع أولاده. قوله: (وقول الله عز وجل: (للفقراء المهاجرين) الآية) ساقها الأصيلي وكريمة إلى قوله (هم الصادقون) وأشار المصنف بهذه الآية إلى ثبوت فضل المهاجرين لما اشتملت عليه من أوصافهم الجميلة وشهادة الله تعالى لهم بالصدق. قوله: (وقال الله تعالى: وفي الآية أيضا فضل أبي بكر الصديق لأنه انفرد بهذه المنقبة حيث صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السفرة ووقاه بنفسه كما سيأتي، وشهد الله له فيها بأنه صاحب نبيه. قوله: (وقالت عائشة وأبو سعيد وابن عباس: كان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار) أي لما خرجا من مكة إلى المدينة، حديث عائشة سيأتي مطولا في " باب الهجرة إلى المدينة " وفيه " ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور " الحديث. وحديث أبي سعيد أخرجه ابن حبان من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عنه في قصة بعث أبي بكر إلى الحج، وفيه " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت أخي وصاحبي في الغار " الحديث. وحديث ابن عباس في تفسير براءة في قصة ابن عباس مع ابن الزبير، وفيها قول ابن عباس " وأما جده فصاحب الغار " يريد أبا بكر، ولابن عباس حديث آخر لعله أمس بالمراد، أخرجه أحمد والحاكم من طريق عمرو بن ميمون عنه قال: " كان المشركون يرمون عليا وهم يظنون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فقال: يا رسول الله، فقال له علي: إنه انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار " الحديث. وأصله في الترمذي والنسائي دون المقصود منه هنا. وروى الحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ اشْتَرَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ عَازِبٍ رَحْلًا بِثَلَاثَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَازِبٍ مُرْ الْبَرَاءَ فَلْيَحْمِلْ إِلَيَّ رَحْلِي فَقَالَ عَازِبٌ لَا حَتَّى تُحَدِّثَنَا كَيْفَ صَنَعْتَ أَنْتَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجْتُمَا مِنْ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ يَطْلُبُونَكُمْ قَالَ ارْتَحَلْنَا مِنْ مَكَّةَ فَأَحْيَيْنَا أَوْ سَرَيْنَا لَيْلَتَنَا وَيَوْمَنَا حَتَّى أَظْهَرْنَا وَقَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ فَرَمَيْتُ بِبَصَرِي هَلْ أَرَى مِنْ ظِلٍّ فَآوِيَ إِلَيْهِ فَإِذَا صَخْرَةٌ أَتَيْتُهَا فَنَظَرْتُ بَقِيَّةَ ظِلٍّ لَهَا فَسَوَّيْتُهُ ثُمَّ فَرَشْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ اضْطَجِعْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَاضْطَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْطَلَقْتُ أَنْظُرُ مَا حَوْلِي هَلْ أَرَى مِنْ الطَّلَبِ أَحَدًا فَإِذَا أَنَا بِرَاعِي غَنَمٍ يَسُوقُ غَنَمَهُ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا الَّذِي أَرَدْنَا فَسَأَلْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُ فَعَرَفْتُهُ فَقُلْتُ هَلْ فِي غَنَمِكَ مِنْ لَبَنٍ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ فَهَلْ أَنْتَ حَالِبٌ لَنَا قَالَ نَعَمْ فَأَمَرْتُهُ فَاعْتَقَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ ضَرْعَهَا مِنْ الْغُبَارِ ثُمَّ أَمَرْتُهُ أَنْ يَنْفُضَ كَفَّيْهِ فَقَالَ هَكَذَا ضَرَبَ إِحْدَى كَفَّيْهِ بِالْأُخْرَى فَحَلَبَ لِي كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ وَقَدْ جَعَلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدَاوَةً عَلَى فَمِهَا خِرْقَةٌ فَصَبَبْتُ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقْتُهُ قَدْ اسْتَيْقَظَ فَقُلْتُ اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ ثُمَّ قُلْتُ قَدْ آنَ الرَّحِيلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بَلَى فَارْتَحَلْنَا وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَنَا فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ غَيْرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَقُلْتُ هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن رجاء) هو الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون بصري ثقة، وكذا بقية رجال الإسناد. قوله: (فقال عازب: لا حتى تحدثنا) كذا وقع في رواية إسرائيل عن أبي إسحاق، وقد تقدم في " علامات النبوة " من رواية زهير عن أبي إسحاق بلفظ " فقال لعازب: ابعث ابنك يحمله معي، قال: فحملته معه وخرج أبي ينتقد ثمنه، فقال له أبي: يا أبا بكر حدثني " وظاهرهما التخالف، فإن مقتضى رواية إسرائيل أن عازبا امتنع من إرسال ولده مع أبي بكر حتى يحدثهم، ومقتضى رواية زهير أنه لم يعلق التحديث على شرط، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عازبا اشترط أولا وأجابه أبو بكر إلى سؤاله، فلما شرعوا في التوجه استنجز عازب منه ما وعده به من التحديث ففعل، قال الخطابي: تمسك بهذا الحديث من استجاز أخذ الأجرة على التحديث؛ وهو تمسك باطل، لأن هؤلاء اتخذوا التحديث بضاعة، وأما الذي وقع بين عازب وأبي بكر فإنما هو على مقتضى العادة الجارية بين التجار بأن أتباعهم يحملون السلعة مع المشتري سواء أعطاهم أجرة أم لا، كذا قال، ولا ريب أن في الاستدلال للجواز بذلك بعدا، لتوقفه على أن عازبا لو استمر على الامتناع من إرسال ابنه لاستمر أبو بكر على الامتناع من التحديث، والله أعلم. قوله: (فإذا أنا براع) لم أقف على تسميته ولا على تسمية صاحب الغنم، إلا أنه جاء في حديث عبد الله بن مسعود شيء تمسك به من زعم أنه الراعي، وذلك فيما أخرجه أحمد وابن حبان من طريق عاصم، عن زر عن ابن مسعود قال: " كنت أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فقال: يا غلام هل من لبن؟ قلت: نعم، ولكني مؤتمن " الحديث وهذا لا يصلح أن يفسر به الراعي في حديث البراء لأن ذاك قيل له: " هل أنت حالب؟ فقال: نعم " وهذا أشار بأنه غير حالب، وذاك حلب من شاة حافل وهذا من شاة لم تطرق ولم تحمل، ثم إن في بقية هذا الحديث ما يدل على أن قصته كانت قبل الهجرة لقوله فيه: " ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول " فإن هذا يشعر بأنها كانت قبل إسلام ابن مسعود، وإسلام ابن مسعود كان قديما قبل الهجرة بزمان، فبطل أن يكون هو صاحب القصة في الهجرة، والله أعلم. قوله: (فشرب حتى رضيت) وقع في رواية أوس عن خديج عن أبي إسحاق " قال أبو إسحاق فتكلم بكلمة والله ما سمعتها من غيره " كأنه يعني قوله: " حتى رضيت " فإنها مشعرة بأنه أمعن في الشرب، وعادته المألوفة كانت عدم الإمعان. قوله: (قد آن الرحيل يا رسول الله) أي دخل وقته، وتقدم في علامات النبوة " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألم يأن للرحيل؟ قلت: بلى " فيجمع بينهما بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل، فقال له أبو بكر بلى، ثم أعاد عليه بقوله " قد آن الرحيل " قال المهلب بن أبي صفرة: إنما شرب النبي صلى الله عليه وسلم من لبن تلك الغنم لأنه كان حينئذ في زمن المكارمة، ولا يعارضه حديثه " لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه " لأن ذلك وقع في زمن التشاح، أو الثاني محمول على التسور والاختلاس والأول لم يقع فيه ذلك بل قدم أبو بكر سؤال الراعي هل أنت حالب؟ فقال: نعم، كأنه سأله هل أذن لك صاحب الغنم في حلبها لمن يرد عليك؟ فقال: نعم أو جرى على العادة المألوفة للعرب في إباحة ذلك والإذن في الحلب على المار ولابن السبيل، فكان كل راع مأذونا له في ذلك. وقال الداودي: إنما شرب من ذلك على أنه ابن سبيل وله شرب ذلك إذا احتاج، ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم " وأبعد من قال: إنما استجازه لأنه مال الحربي، لأن القتال لم يكن فرض بعد ولا أبيحت الغنائم. وقد تقدم شيء من هذه المباحث في هذه المسألة في آخر اللقطة، وفيها الكلام على إباحة ذلك للمسافر مطلقا. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: خدمة التابع الحر للمتبوع في يقظته والذب عنه عند نومه، وشدة محبة أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم وأدبه معه وإيثاره له على نفسه، وفيه أدب الأكل والشرب واستحباب التنظيف لما يؤكل ويشرب، وفيه استصحاب آلة السفر كالإداوة والسفرة ولا يقدح ذلك في التوكل، وستأتي قصة سراقة في الهجرة مستوفاة إن شاء الله تعالى، وأوردها هنا مختصرة جدا وفي علامات النبوة أتم (تنبيه) : أورد الإسماعيلي هذا الحديث عن أبي خليفة عن عبد الله بن رجاء شيخ البخاري فيه فزاد في آخره " ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى أتينا المدينة ليلا، فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه " فذكر القصة مطولة، وسأذكر ما فيها من الفوائد في " باب الهجرة " إن شاء الله تعالى. قوله: (تريحون بالعشي، تسرحون بالغداة) هو تفسير قوله تعالى: الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا فَقَالَ مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا الشرح: قوله: (عن ثابت) في رواية حبان بن هلال في التفسير عن همام " حدثنا ثابت". قوله: (عن أنس عن أبي بكر) في رواية حبان المذكورة " حدثنا أنس حدثني أبو بكر". قوله: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار) زاد في رواية حبان المذكورة " فرأيت آثار المشركين " وفي رواية موسى بن إسماعيل عن همام في الهجرة " فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم". قوله: (لو أن أحدهم نظر تحت قدميه) فيه مجيء " لو " الشرطية للاستقبال خلافا للأكثر واستدل من جوزه بمجيء الفعل المضارع بعدها كقوله تعالى: قوله: " لو أن أحدهم نظر تحت قدميه " في رواية موسى " لو أن بعضهم طأطأ بصره " وفي رواية حبان " رفع قدميه " ووقع مثله في حديث حبشي بن جنادة أخرجه ابن عساكر، وهي مشكلة فإن ظاهرها أن باب الغار استتر بأقدامهم، وليس كذلك إلا أن يحمل على أن المراد أنه استتر بثيابهم، وقد أخرجه مسلم من رواية حبان المذكورة بلفظ " لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه " وكذا أخرجه أحمد عن عفان عن همام، ووقع في مغازي عروة بن الزبير في قصة الهجرة قال: " وأتى المشركون على الجبل الذي فيه الغار الذي فيه النبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع أبو بكر أصواتهم فأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: قوله: (ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما) في رواية موسى " فقال اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثهما " وقوله اثنان خبر مبتدأ محذوف تقديره نحن اثنان، ومعنى ثالثهما ناصرهما ومعينهما، وإلا فالله ثالث كل اثنين بعلمه، وستأتي الإشارة إلى ذلك في تفسير براءة. وفي الحديث منقبة ظاهرة لأبي بكر، وفيه أن باب الغار كان منخفضا إلا أنه كان ضيقا، فقد جاء في " السير للواقدي " أن رجلا كشف عن فرجه وجلس يبول فقال أبو بكر " قد رآنا يا رسول الله. قال: لو رآنا لم يكشف عن فرجه " وسيأتي مزيد لذلك في قصة الهجرة إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : اشتهر أن حديث الباب تفرد به همام عن ثابت، وممن صرح بذلك الترمذي والبزار، وقد أخرجه ابن شاهين في " الأفراد " من طريق جعفر بن سليمان عن ثابت بمتابعة همام، وقد قدمت له شاهدا من حديث حبشي بن جنادة، ووجدت له آخر عن ابن عباس أخرجه الحاكم في " الإكليل". *3* قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب، إلا باب أبي بكر، قاله ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم) وصله المصنف في الصلاة بلفظ " سدوا عني كل خوخة " فكأنه ذكره بالمعنى. الحديث: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ وَقَالَ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ ذَلِكَ الْعَبْدُ مَا عِنْدَ اللَّهِ قَالَ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَعَجِبْنَا لِبُكَائِهِ أَنْ يُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَبْدٍ خُيِّرَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْمُخَيَّرَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ مِنْ أَمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبَا بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا غَيْرَ رَبِّي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَّتُهُ لَا يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ الشرح: قوله: (حدثنا أبو عامر) هو العقدي و (فليح) هو ابن سليمان، وهو ومن فوقه مدنيون. قوله: (عن عبيد بن حنين) تقدم بيان الاختلاف في إسناده في " باب الخوخة في المسجد " في أوائل الصلاة. قوله: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية مالك عن أبي النضر الآتية في الهجرة إلى المدينة " جلس على المنبر فقال " وفي حديث ابن عباس الماضي تلو حديث أبي سعيد في " باب الخوخة " من أوائل الصلاة " في مرضه الذي مات فيه " ولمسلم من حديث جندب " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بخمس ليال " وفي حديث أبي بن كعب الذي سأنبه عليه قريبا " إن أحدث عهدي بنبيكم قبل وفاته بثلاث " فذكر الحديث في خطبة أبي بكر، وهو طرف من هذا، وكأن أبا بكر رضي الله عنه فهم الرمز الذي أشار به النبي صلى الله عليه وسلم من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى. قوله: (بين الدنيا وبين ما عنده) في رواية مالك المذكورة " بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده". قوله: (فعجبنا لبكائه) وقع في رواية محمد بن سنان في " باب الخوخة " المذكورة " فقلت في نفسي " وفي رواية مالك " فقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد، وهو يقول فديناك " ويجمع بأن أبا سعيد حدث نفسه بذلك فوافق تحديث غيره بذلك فنقل جميع ذلك. قوله: (وكان أبو بكر أعلمنا) في رواية مالك " وكان أبو بكر هو أعلمنا به " أي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور، زاد في رواية محمد بن سنان " فقال: يا أبا بكر لا تبك". قوله: (إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر) في رواية مالك كذلك. وفي رواية محمد بن سنان " إن من أمن الناس علي " بزيادة من. وقال فيها " أبا بكر " بالنصب للأكثر، ولبعضهم " أبو بكر " بالرفع، وقد قيل إن الرفع خطأ والصواب النصب لأنه اسم إن، ووجه الرفع بتقدير ضمير الشأن أي إنه، والجار والمجرور بعده خبر مقدم وأبو بكر مبتدأ مؤخر، أو على أن مجموع الكنية اسم فلا يعرب ما وقع فيها من الأداة أو " إن " بمعنى نعم أو إن " من " زائدة على رأي الكسائي. وقال ابن بري: يجوز الرفع إذا جعلت من صفة لشيء محذوف تقديره إن رجلا أو إنسانا من أمن الناس فيكون اسم إن محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة، وقوله: " أبو بكر " الخبر، وقوله "أمن " أفعل تفضيل من المن بمعنى العطاء والبذل، بمعنى إن أبذل الناس لنفسه وماله، لا من المنة التي تفسد الصنيعة، وقد تقدم تقرير ذلك في " باب الخوخة " وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المنة وقال: تقديره لو كان يتوجه لأحد الامتنان على نبي الله صلى الله عليه وسلم لتوجه له، والأول أولى. وقوله: " أمن الناس " في رواية الباب ما يوافق حديث ابن عباس بلفظ " ليس أحد من الناس أمن علي في نفسه وماله من أبي بكر " وأما الرواية التي فيها " من " فإن قلنا زائدة فلا تخالف، وإلا فتحمل على أن المراد أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية إلا أنه مقدم في ذلك بدليل ما تقدم من السياق وما تأخر، ويؤيده ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة بلفظ " ما لأحد له عندنا يد إلا كافأناه عليها؛ ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا يكافئه الله بها يوم القيامة " فإن ذلك يدل على ثبوت يد لغيره، إلا أن لأبي بكر رجحانا. فالحاصل أنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم في ذلك، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه في شيء من ذلك، ووقع بيان ذلك في حديث آخر لابن عباس رفعه نحو حديث الترمذي وزاد " منة أعتق بلالا ومنة هاجر بنبيه " أخرجه الطبراني، وعنه في طريق أخرى " ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر: واساني بنفسه وماله، وأنكحني ابنته " أخرجه الطبراني، وفي حديث مالك بن دينار عن أنس رفعه " إن أعظم الناس علينا منا أبو بكر، زوجني ابنته، وواساني بنفسه. وإن خير المسلمين مالا أبو بكر، أعتق منه بلالا، وحملني إلى دار الهجرة " أخرجه ابن عساكر. وأخرج من رواية ابن حبان التيمي عن أبيه عن علي نحوه، وجاء عن عائشة مقدار المال الذي أنفقه أبو بكر، فروى ابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت " أنفق أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم " وروى الزبير بن بكار عن عروة عن عائشة " أنه لما مات ما ترك دينارا ولا درهما". قوله: (لو كنت متخذا خليلا) يأتي الكلام عليه بعد باب، قال الداودي: لا ينافي هذا قول أبي هريرة وأبي ذر وغيرهما " أخبرني خليلي صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك جائز لهم، ولا يجوز للواحد منهم أن يقول أنا خليل النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال إبراهيم خليل الله ولا يقال الله خليل إبراهيم. قلت: ولا يخفى ما فيه. قوله: (ولكن أخوة الإسلام ومودته) أي حاصلة، ووقع في حديث ابن عباس الآتي بعد باب " أفضل " وكذا أخرجه الطبراني من طريق عبيد الله بن تمام عن خالد الحذاء بلفظ " ولكن أخوة الإيمان والإسلام أفضل " وأخرجه أبو يعلى من طريق يعلى بن حكيم عن عكرمة بلفظ " ولكن خلة الإسلام أفضل " وفيه إشكال، فإن الخلة أفضل من أخوة الإسلام لأنها تستلزم ذلك وزيادة، فقيل المراد أن مودة الإسلام مع النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من مودته مع غيره، وقيل: أفضل بمعنى فاضل، ولا يعكر على ذلك اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة لأن رجحان أبي بكر عرف من غير ذلك، وأخوة الإسلام ومودته متفاوتة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أعظمه وأكثره، والله أعلم. ووقع في بعض الروايات " ولكن خوة الإسلام " بغير ألف فقال ابن بطال: لا أعرف معنى هذه الكلمة ولم أجد خوة بمعنى خلة في كلام العرب، وقد وجدت في بعض الروايات " ولكن خلة الإسلام " وهو الصواب: وقال ابن التين: لعل الألف سقطت من الرواية فإنها ثابتة في سائر الروايات، ووجه ابن مالك بأنه نقلت حركة الهمزة إلى النون فحذف الألف، وجوز مع حذفها ضم نون لكن وسكونها، قال: ولا يجوز مع إثبات الهمزة إلا سكون النون فقط. وفي قوله: " ولو كنت متخذا خليلا إلخ " منقبة عظيمة لأبي بكر لم يشاركه فيها أحد. ونقل ابن التين عن بعضهم أن معنى قوله: " ولو كنت متخذا خليلا " لو كنت أخص أحدا بشيء من أمر الدين لخصصت أبا بكر، قال: وفيه دلالة على كذب الشيعة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خص عليا بأشياء من القرآن وأمور الدين لم يخص بها غيره. قلت: والاستدلال بذلك متوقف على صحة التأويل المذكور وما بعدها. قوله: (لا يبقين) بفتح أوله وبنون التأكيد، وفي إضافة النهي إلى الباب تجوز لأن عدم بقائه لازم للنهي عن إبقائه، فكأنه قال: لا تبقوه حتى لا يبقى. وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح. قوله: (إلا سد) بضم المهملة. وفي رواية مالك " خوخة " بدل " باب " والخوخة طاقة في الجدار تفتح لأجل الضوء ولا يشترط علوها، وحيث تكون سفلى يمكن الاستطراق منها لاستقراب الوصول إلى مكان مطلوب، وهو المقصود هنا، ولهذا أطلق عليها باب، وقيل: لا يطلق عليها باب إلا إذا كانت تغلق. قوله: (إلا باب أبي بكر) هو استثناء مفرغ، والمعنى لا تبقوا بابا غير مسدود إلا باب أبي بكر فاتركوه بغير سد، قال الخطابي وابن بطال وغيرهما: في هذا الحديث اختصاص ظاهر لأبي بكر، وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه للخلافة، ولا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمهم إلا أبو بكر. وقد ادعى بعضهم أن الباب كناية عن الخلافة والأمر بالسد كناية عن طلبها كأنه قال: لا يطلبن أحد الخلافة إلا أبا بكر فإنه لا حرج عليه في طلبها، وإلى هذا جنح ابن حبان فقال بعد أن أخرج هذا الحديث: في هذا دليل على أنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه حسم بقوله: " سدوا عني كل خوخة في المسجد " أطماع الناس كلهم عن أن يكونوا خلفاء بعده. وقوى بعضهم ذلك بأن منزلا أبي بكر كان بالسنح من عوالي المدينة كما سيأتي قريبا بعد باب فلا يكون له خوخة إلى المسجد، وهذا الإسناد ضعيف لأنه لا يلزم من كون منزله كان بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي كان بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس بالاتفاق وأم رومان على القول بأنها كانت باقية يومئذ. وقد تعقب المحب الطبري كلام ابن حبان فقال: وقد ذكر عمر بن شبة في " أخبار المدينة " أن دار أبي بكر التي أذن له في إبقاء الخوخة منها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد ولم تزل بيد أبي بكر حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض من وفد عليه فباعها فاشترتها منه حفصة أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم فلم تزل بيدها إلى أن أرادوا توسيع المسجد في خلافة عثمان فطلبوها منها ليوسعوا بها المسجد فامتنعت وقالت: كيف بطريقي إلى المسجد؟ فقيل لها نعطيك دارا أوسع منها ونجعل لك طريقا مثلها، فسلمت ورضيت. قوله: (إلا باب أبي بكر) زاد الطبراني من حديث معاوية في آخر هذا الحديث بمعناه " فإني رأيت عليه نورا". (تنبيه) : جاء في سد الأبواب التي حول المسجد أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، منها حديث سعد بن أبي وقاص قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي " أخرجه أحمد والنسائي وإسناده قوي. وفي رواية للطبراني في " الأوسط " رجالها ثقات من الزيادة " فقالوا يا رسول الله سددت أبوابنا، فقال: ما أنا سددتها ولكن الله سدها " وعن زيد بن أرقم قال: " كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سدوا هذه الأبواب إلا باب علي، فتكلم ناس في ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني والله ما سددت شيئا ولا فتحته ولكن أمرت بشيء فاتبعته " أخرجه أحمد والنسائي والحاكم ورجاله ثقات، وعن ابن عباس قال: " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبواب المسجد فسدت إلا باب علي " وفي رواية " وأمر بسد الأبواب غير باب علي فكان يدخل المسجد وهو جنب ليس له طريق غيره " أخرجهما أحمد والنسائي ورجالهما ثقات. وعن جابر بن سمرة قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مر فيه وهو جنب " أخرجه الطبراني. وعن ابن عمر قال: " كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر، ولقد أعطي علي بن أبي طالب ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر " أخرجه أحمد وإسناده حسن. وأخرج النسائي من طريق العلاء بن عرار بمهملات قال: " فقلت لابن عمر: أخبرني عن علي وعثمان - فذكر الحديث وفيه - وأما علي فلا تسأل عنه أحدا وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه " ورجاله رجال الصحيح إلا العلاء وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا وكل طريق منها صالح للاحتجاج فضلا عن مجموعها. وقد أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، أخرجه من حديث سعد بن أبي وقاص وزيد بن أرقم وابن عمر مقتصرا على بعض طرقه عنهم، وأعله ببعض من تكلم فيه من رواته، وليس ذلك بقادح لما ذكرت من كثرة الطرق، وأعله أيضا بأنه مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة في باب أبي بكر وزعم أنه من وضع الرافضة قابلوا به الحديث الصحيح في باب أبي بكر انتهى، وأخطأ في ذلك خطأ شنيعا فإنه سلك في ذلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة، مع أن الجمع بين القصتين ممكن، وقد أشار إلى ذلك البزار في مسنده فقال: ورد من روايات أهل الكوفة بأسانيد حسان في قصة علي، وورد من روايات أهل المدينة في قصة أبي بكر، فإن ثبتت روايات أهل الكوفة فالجمع بينهما بما دل عليه حديث أبي سعيد الخدري يعني الذي أخرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبا غيري وغيرك " والمعنى أن باب علي كان إلى جهة المسجد ولم يكن لبيته باب غيره فلذلك لم يؤمر بسده، ويؤيد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في " أحكام القرآن " من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب " أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر في المسجد وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب لأن بيته كان في المسجد " ومحصل الجمع أن الأمر بسد الأبواب وقع مرتين، ففي الأولى استثني علي لما ذكره، وفي الأخرى استثني أبو بكر، ولكن لا يتم ذلك إلا بأن يحمل ما في قصة علي على الباب الحقيقي وما في قصة أبي بكر على الباب المجازي والمراد به الخوخة كما صرح به في بعض طرقه، وكأنهم لما أمروا بسد الأبواب سدوها وأحدثوا خوخا يستقربون الدخول إلى المسجد منها فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذه طريقة لا بأس بها في الجمع بين الحديثين، وبها جمع بين الحديثين المذكورين أبو جعفر الطحاوي في مشكل الآثار، وهو في أوائل الثلث الثالث منه، وأبو بكر الكلاباذي في " معاني الأخبار " وصرح بأن بيت أبي بكر كان له باب من خارج المسجد وخوخة إلى داخل المسجد، وبيت علي لم يكن له باب إلا من داخل المسجد، والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق وأنه كان متأهلا لأن يتخذه النبي صلى الله عليه وسلم خليلا لولا المانع المتقدم ذكره، ويؤخذ منه أن للخليل صفه خاصة تقتضي عدم المشاركة فيها، وأن المساجد تصان عن التطرق إليها لغير ضرورة مهمة، والإشارة بالعلم الخاص دون التصريح لإثارة أفهام السامعين وتفاوت العلماء في الفهم وأن من كان أرفع في الفهم استحق أن يطلق عليه أعلم، وفيه الترغيب في اختيار ما في الآخرة على ما في الدنيا، وقيه شكر المحسن والتنويه بفضله والثناء عليه. وقال ابن بطال: فيه أن المرشح للإمامة يخص بكرامة تدل عليه كما وقع في حق الصديق في هذه القصة. *3* الشرح: قوله: (باب فضل أبي بكر - بعد النبي صلى الله عليه وسلم) أي في رتبة الفضل، وليس المراد البعدية الزمانية فإن فضل أبي بكر كان ثابتا في حياته صلى الله عليه وسلم كما دل عليه حديث الباب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الشرح: قوله: (حدثنا سليمان) هو ابن بلال، ويحيى بن سعيد هو الأنصاري، والإسناد كله مدنيون. قوله: (كنا نخير بين الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي نقول: فلان خير من فلان إلخ. وفي رواية عبيد الله بن عمر عن نافع الآتية في مناقب عثمان " كنا لا نعدل بأبي بكر أحدا ثم عمر ثم عثمان، ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم " وقوله: " لا نعدل بأبي بكر " أي لا نجعل له مثلا، وقوله: " ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي الكلام فيه ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمر " كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان " زاد الطبراني في رواية " فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره " وروى خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر " كنا نقول: " إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس، فيسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فلا ينكره " وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق ابن أبي أويس عن سليمان بن بلال في حديث الباب دون آخره. وفي الحديث تقديم عثمان بعد أبي بكر وعمر، كما هو المشهور عند جمهور أهل السنة، وذهب بعض السلف إلى تقديم علي على عثمان، وممن قال به سفيان الثوري ويقال إنه رجع عنه. وقال به ابن خزيمة، وطائفة قبله وبعده، وقيل لا يفضل أحدهما على الآخر قاله مالك في " المدونة " وتبعه جماعة منهم يحيى القطان، ومن المتأخرين ابن حزم، وحديث الباب حجة للجمهور، وقد طعن فيه ابن عبد البر واستند إلى ما حكاه عن هارون بن إسحاق قال: سمعت ابن معين يقول: من قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي سابقيته وفضله فهو صاحب سنة، قال فذكرت له من يقول أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلم فيهم بكلام غليظ، وتعقب بأن ابن معين أنكر رأي قوم وهم العثمانية الذين يغالون في حب عثمان وينتقصون عليا، ولا شك في أن من اقتصر على ذلك ولم يعرف لعلي بن أبي طالب فضله فهو مذموم، وادعى ابن عبد البر أيضا أن هذا الحديث خلاف قول أهل السنة إن عليا أفضل الناس بعد الثلاثة، فإنهم أجمعوا على أن عليا أفضل الخلق بعد الثلاثة، ودل هذا الإجماع على أن حديث ابن عمر غلط وإن كان السند إليه صحيحا، وتعقب أيضا بأنه لا يلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله عدم تفضيله على الدوام، وبأن الإجماع المذكور إنما حدث بعد الزمن الذي قيده ابن عمر فيخرج حديثه عن أن يكون غلطا، والذي أظن أن ابن عبد البر إنما أنكر الزيادة التي وقعت في رواية عبيد الله بن عمر وهي قول ابن عمر " ثم نترك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ " لكن لم ينفرد بها نافع فقد تابعه ابن الماجشون أخرجه خيثمة من طريق يوسف بن الماجشون عن أبيه عن ابن عمر " كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان، ثم ندع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نفاضل بينهم " ومع ذلك فلا يلزم من تركهم التفاضل إذ ذاك أن لا يكونوا اعتقدوا بعد ذلك تفضيل علي على من سواه والله أعلم. وقد اعترف ابن عمر بتقديم علي على غيره كما تقدم في حديثه الذي أوردته في الباب الذي قبله، وقد جاء في بعض الطرق في حديث ابن عمر تقييد الخيرية المذكورة والأفضلية بما يتعلق بالخلافة، وذلك فيما أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن يسار عن سالم عن ابن عمر قال: " إنكم لتعلمون أنا كنا نقول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو بكر وعمر وعثمان، يعني في الخلافة " كذا في أصل الحديث. ومن طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر " كنا نقول في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يكون أولى الناس بهذا الأمر؟ فنقول: أبو بكر ثم عمر". وذهب قوم إلى أن أفضل الصحابة من استشهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعين بعضهم منهم جعفر بن أبي طالب. ومنهم من ذهب إلى العباس وهو قول مرغوب عنه ليس قائله من أهل السنة بل ولا من أهل الإيمان، ومنهم من قال: أفضلهم مطلقا عمر متمسكا بالحديث الآتي في ترجمته في المنام الذي فيه في حق أبي بكر " وفي نزعه ضعف " وهو تمسك واه. ونقل البيهقي في " الاعتقاد " بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
|