الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وهو أن ناسا من [الزنادقة] قد علموا زهد أحمد وورعه وتقواه، وأن الناس يتبعونه فيما يذهب إليه، فجمعوا له كلامًا في الإثبات، وعزوه إلى تفاسير وكتب أحاديث، وأضافوا ـ أيضًا ـ إلى الصحابة والأئمة وغيرهم، حتى إليه هو ـ شيئًا كثيرًا من ذلك على لسانه ـ وجعلوا ذلك في صندوق مقفل، وطلبوا من الإمام أحمد أن يستودع ذلك الصندوق منهم، وأظهروا أنهم على سفر ونحو ذلك، وأنهم غرضهم الرجوع إليه ليأخذوا تلك الوديعة، وهم يعلمون أنه لا يتعرض لما في الصندوق، فلم يزل عنده ذلك إلى أن توفاه الله، فدخل أتباعه، والذين أخذوا عنه العلم، فوجدوا ذلك الصندوق وفتحوه، فوجودا فيه تلك [الأحاديث الموضوعة] و[التفاسير والنقول] الدالة على الإثبات. فقالوا: لو لم يكن الإمام أحمد يعتقد ما في هذه الكتب، لما أودعها هذا الصندوق واحترز عليها، فقرؤوا تلك الكتب، وأشهروها في جملة ما أشهروا من تصانيفه وعلومه وجهلوا مقصـود أولئك الزنادقة، الذين قصدوا فساد هذه الأمة الإسلامية، كما حصل مقصود بولص بإفساد الملة النصرانية، بالرسائل التي وضعها لهم. فأجاب: من قال تلك الحكاية المفتراة عن أحمد بن حنبل، وأنه أودع عنده صناديق فيها كتب لم يعرف ما فيها حتى مات، وأخذها أصحابه فاعتقدوا ما فيها، فهذا يدل على غاية جهل هذا المتكلم، فإن أحمد لم يأخذ عنه المسلمون كلمـة واحـدة مـن صفات الله ـ تعالى ـ قالها هو، بل الأحاديث التي يرويها أهل العلم في صفات الله ـ تعالى ـ كانت موجودة عند الأمة قبل أن يولد الإمام أحمد، وقد رواها أهل العلم غير الإمام أحمد، فلا يحتاج الناس فيها إلى رواية أحمد، بل هي معروفة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يخلق أحمد. وأحمد إنما اشتهر أنه إمام أهل السنة، والصابر على المحنة؛ لما ظهرت محن [الجهمية] الذين ينفون صفات الله ـ تعالي ـ ويقولون: إن الله لا يرى في الآخرة، وأن القرآن ليس هو كلام الله، بل هو مخلوق من المخلوقات، وأنه تعالى ليس فوق السموات، وأن محمدًا لم يعرج إلى الله، وأضلوا بعض ولاة الأمر، فامتحنوا الناس بالرغبة والرهبة، فمن الناس من أجابهم ـ رغبة ـ ومن الناس من أجابهم ـ رهبة ـ ومنهم من اختفى فلم يظهر لهم. وصار من لم يجبهم قطعوا رزقه وعزلوه عن ولايته، وإن كان أسيرا لم يفكوه ولم يقبلوا شهادته؛ وربما قتلوه أو حبسوه. و[المحنة] مشهورة معروفة، كانت في إمارة المأمون، والمعتصم،والواثق، ثم رفعها المتوكل، فثبت الله الإمام أحمد، فلم يوافقهم على تعطيل صفات الله ـ تعالى ـ وناظرهم في العلم فقطعهم، وعذبوه، فصبر على عذابهم، فجعله الله من الأئمة الذين يهدون بأمره، كما قال تعالى: فمن أعطى الصبر واليقين، جعله الله إمامًا في الدين. وما تكلم به من [السنة] فإنما أضيف له لكونه أظهره وأبداه لا لكونه أنشأه وابتدأه، وإلا فالسنة سنة النبي صلى الله عليه وسلم. فأصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدي محمد بن عبد الله، وما قاله الإمام أحمد هو قول الأئمة قبله، كمالك والثوري، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وقول التابعين قبل هؤلاء،وقول الصحابة الذين أخذوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديث [السنة] معروفة في الصحيحين وغيرهما من كتب الإسلام. والنقل عن أحمد وغيره من أئمة السنة، متواتر بإثبات صفات الله ـ تعالى ـ وهؤلاء متبعون في ذلك ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأما أن المسلمين يثبتون عقيدتهم في أصول الدين، بقوله، أو بقول غيره من العلماء، فهذا لا يقوله إلا جاهل. وأحمد بن حنبل نهى عن تقليده وتقليد غيره من العلماء في الفروع، و قال: لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا أن يغلطوا. وقال: لا تقلدني، ولا مالكًا، ولا الثوري،ولا الشافعي، وقد جرى في ذلك على سنن غيره من الأئمة، فكلهم نهوا عن تقليدهم، كما نهى الشافعي عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فكيف يقلد أحمد وغيره في أصول الدين؟ وأصحاب أحمد، مثل أبي داود السِّجِسْتاني، و إبراهيم الحربي، وعثمان بن سعيد الدارمي، وأبي زُرْعَة، وأبي حاتم، والبخاري، ومسلم، وبَقِيّ بن مَخْلد، وأبي بكر الأثرم، وابنيه صالح وعبد الله، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد بن مسلم ابن وارة، وغير هؤلاء الذين هم من أكابر أهل العلم والفقه والدين، لا يقبلون كلام أحمد ولا غيره إلا بحجة يبينها لهم، وقد سمعوا العلم كما سمعه هو، وشاركوه في كثير من شيوخه، ومن لم يلحقوه أخذوا عن أصحابه الذين هم نظراؤه، وهذه الأمور يعرفها من يعرف أحوال الإسلام وعلمائه.
فَصْــل في الصفات الاختيارية وهي الأمور التي يتصف بها الرب ـ عز وجل ـ فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه، وسمعه، وبصره، وإرادته، ومحبته، ورضاه، ورحمته، وغضبه، وسخطه، ومثل خلقه، وإحسانه، وعدله، ومثل استوائه، ومجيئه، وإتيانه، ونزوله، ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز، والسنة. فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم، يقولون: لا يقوم بذاته شىء من هذه الصفات، ولا غيرها. والكُلاَّبية ومن وافقهم من السالمية وغيرهم يقولون:[تقوم صفات بغير مشيئته وقدرته]، فأما ما يكون بمشيئته وقدرته، فلا يكون إلا مخلوقًا منفصلا عنه. وأما السلف وأئمة السنة والحديث، فيقولون: إنه متصف بذلك، كما نطق به الكتاب والسنة، وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم، كما ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع. ومثل هذا: [الكلام]، فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون: يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه ليس بمخلوق، بل كلامه صفة له قائمة بذاته. وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة، أبو عبد الله بن منده، وأبو عبد الله بن حامد، وأبو بكر عبد العزيز، وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم. وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في [الاستواء] وأئمة السنة ـ كعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وعثمان بن سعيد الدارمي ومن لا يحصى من الأئمة، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل،وإسحاق بن إبراهيم، وسائر أهل السنة والحديث ـ متفقون على أنه متكلم بمشيئته، وأنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، وكيف شاء. وقد سمى الله القرآن العزيز حديثًا فقال: ومن المشهور عن السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق؛ منه بدأ، وإليه يعود. وأما الجهمية والمعتزلة، فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته، بل كلامه منفصل عنه مخلوق عنه والمعتزلة يطلقون القول بأنه يتكلم بمشيئته، ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلامًا منفصلا عنه. والكُلاَّبية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل كلامه قائم بذاته، بدون قدرته، ومشيئته مثل حياته، وهم يقولون: الكلام صفة ذات، لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته، وأولئك يقولون: هو صفة فعل، لكن الفعل عندهم هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته. وأما السلف وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام كالهشامية، والكَرَّامية وأصحاب أبي معاذ التُّومِنِيّ، وزُهَيْر اليامي، وطوائف غير هؤلاء يقولون: إنه صفة ذات، وفعل، هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلامًا قائمًا بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم، فكل من وصف بالكلام كالملائكة والبشر، والجن، وغيرهم، فكلامهم لابد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم. والكلام صفة كمال، لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟! ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم: أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عَرَض، والعرض لا يقوم إلا بجسم. والكُلاَّبيّة يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة، ولا تكون بمشيئته؛ فأما ما يكون بمشيئته فإنه حـادث، والرب ـ تعـالى ـ لا تقـوم بـه الحـوادث ويسمـون [الصفات الاختيارية] مسألة [حلول الحوادث] فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته، وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته، كان ذلك النداء والكلام حادثًا. قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث. قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يَخْلُ منها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث، قالوا: ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كانت من لوازم ذاته، كان قابلا لها في الأزل، فيلزم جواز وجودها في الأزل، والحوادث لا تكون فى الأزل فإن ذلك يقتضى وجود حوادث لا أول لها، وذلك محال، لوجوه قد ذكرت في غير هذا الموضع. قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام، وبه عرفنا حدوث العالم، وبذلك أثبتنا وجود الصانع، وصدق رسله، فلو قدحنا في تلك لزم القدح في أصول الإيمان والتوحيد. وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلاً لها بعد أن لم يكن قابلاً، فيكون قابلا لتلك الصفة، فيلزم التسلسل الممتنع. وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب، وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب. وفضلاؤهم ـ وهم المتأخرون؛ كالرازي، والآمدي، والطوسي، والحِلِّي وغيرهم ـ معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك، بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف، ونصره في آخر كتبه: كـ [المطالب العالية] ـ وهو من أكبر كتبه الكلامية الذي سماه: [نهاية العقول في دراية الأصول] ـ لما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن]. فإن عمدتهم في [مسألة القرآن] إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته ـ قالوا: لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث، فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في [مسألة القرآن]، فإن عمدتهم عليه، بل استدل بإجماع مركب، وهو دليل ضعيف إلى الغاية، لأنه لم يكن عنده في نصر قول الكُلاَّبية غيره، وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين له فساد قول الكُلاَّبية. وكذلك الآمدي ذكر في [أبكار الأفكار] ما يبطل قولهم،وذكر أنه لا جواب عنه، وقد كشفت هذه الأمور في مواضع،وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحِلِّي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي[حلول الحوادث]لا دليل عليه،فالمنازع جاهل بالعقل والشرع. وكذلك من قبل هؤلاء، كأبي المعالي وذويه، إنما عمدتهم أن الكَرَّامية قالوا ذلك وتناقضوا، فيبينون تناقض الكرامية، ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية ـ وهم منازعوهم ـ فقد فَلَجُوا [أي: ظفروا وفازوا. انظر: القاموس المحيط، مادة: فلج]، ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث ـ بل من قبل الكرَّامية من الطوائف ـ لم تكن تلتفت إلى الكرَّامية وأمثالهم، بل تكلموا بذلك قبل أن تخلق الكرَّامية، فإن ابن كَرَّام كان متأخرًا بعد أحمد بن حنبل، في زمن مسلم بن الحجاج، وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذا قبل هؤلاء، وما زال السلف يقولون بموجب ذلك. لكن لما ظهرت الجهمية النفاة، في أوائل المائة الثانية، بيّن علماء المسلمين ضلالهم وخطأهم، ثم ظهر رَعْنَة [أي: حماقة. انظر: القاموس، مادة: رعن] الجهمية في أوائل المائة الثالثة. وامتحن [العلماء]:الإمام أحمد وغيره، فجردوا الرد على الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن، تدل على بطلان قولهم، وهي كثيرة جدًا. بل الآيات التي تدل على [الصفات الاختيارية] التي يسمونها [حلول الحوادث] كثيرة جدًا، وهذا كقوله تعالى: وكذلك قوله في [قصة موسى]: ثم من قال منهم: إن الكلام معنى واحد، منهم من قال: سمع ذلك المعنى بإذنه كما يقول الأشعري، و منهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم، كما يقوله: القاضي أبو بكر وغيره، فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد، فموسى فهم المعنى كله أو بعضه إن قلتم كله فقد عَلِم عِلْم الله كله، وإن قلتم بعضه فقد تبعض، وعندكم لا يتبعض. ومن قال من أتباع الكُلاَّبية بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف، أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب، كما تقوله السالمية ومن وافقهم، يقولون: إنه يخلق له إدراكًا لتلك الحروف والأصوات؛ والقرآن والسنة، وكلام السلف قاطبة يقتضى أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى،لم يكن النداء موجودًا قبل ذلك، فضلاً عن أن يكون قديمًا أزليًا. وقال تعالى: وقال تعالى:
وكذلك في [الإرادة] و[المحبة] كقوله تعالى: فإن جوازم الفعل المضارع ونواصبه تخلصه للاستقبال، مثل [إن] و[أن]، وكذلك [إذا] ظرف لما يستقبل من الزمان، فقوله: وكذلك في المحبة والرضا، قال الله تعالى: وكذلك قوله: وكذلك قوله:
وكذلك [السمع] و[البصر] و[النظر]. قال الله تعالى: وكذلك: وكذلك قوله: والمعقول الصريح يدل على ذلك، فإن المعدوم لا يرى، ولا يسمع بصريح العقل واتفاق العقلاء، لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودًا، في علمه لا موجودًا بائنا عنه، ولم يقل: إنه يسمع ويرى بائنًا عن الرب. فإذا خلق العباد، وعملوا، وقالوا؛ فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم؛ وإما لا يرى ولا يسمع، فإن نفي ذلك فهو تعطيل لهاتين الصفتين، وتكذيب للقرآن، وهما صفتا كمال لا نقص فيه، فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر. والمخلوق يتصف بأنه يسمع ويبصر، فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وقد عاب الله ـ تعالى ـ من يعبد من لا يسمع ولا يبصر في غير موضع، ولأنه حي، والحي إذا لم يتصف بالسمع والبصر، اتصف بضد ذلك وهو العمى والصمم، وذلك ممتنع، وبسط هذا له موضع آخر. وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وجدت؛ فإما أن يقال: إنه تجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها، وإن تجدد شىء: فإما أن يكون وجودًا أو عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شىء، وإن كان وجودًا: فإما أن يكون قائمًا بذات الله، أو قائمًا بذات غيره والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى، فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله، وهذا لا حيلة فيه. والكُلاَّبية يقولون في جميع هذا الباب: المتجدد هو تعلق بين الأمر والمأمور، وبين الإرادة والمراد، وبين السمع والبصر، والمسموع والمرئي، فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودًا وإما أن يكون عدمًا، فإن كان عدمًا فلم يتجدد شىء فإن العدم لا شىء، وإن كان وجودًا بطل قولهم. وأيضًا، فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة، من غير حدوث ما يوجب ذلك، ممتنع. فلا يحدث نسبة وإضافـة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضـى ذلك. وطائفة ـ منهـم ابن عقيل ـ يسمون هذه النسبة [أحوالا]. والطوائف متفقون على حدوث نسب، وإضافات وتعلقات، لكن حدوث النسب بدون حدوث ما يوجبها ممتنع. فلا يكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية، كالأبوة، والبنوة، والفوقية، والتحتية، والتيامن، والتياسر، فإنها لابد أن تستلزم أمورًا ثبوتية. وكذلك كونه خالقًا، ورازقًا و محسنًا، وعادلاً، فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته؛ إذ كان يخلق بمشيئته، ويرزق بمشيئته، ويعدل بمشيئته، ويحسن بمشيئته. والذي عليه جماهير المسلمين من السلف والخلف: أن الخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الخالق، والمخلوق مفعوله؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بأفعال الرب وصفاته، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ برضاك من سَخَطِك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه. وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره على أن:كلام الله غير مخلوق، بأنه استعاذ به فقال: (من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره شىء حتى يرتحل منه) فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوقة؛ لأنه استعاذ بهما، والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة، فإنها نتيجة معافاته. وإذا كان الخلق فعله، المخلوق مفعوله، وقد خلق الخلق بمشيئته، دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته ويمتنع قيامه بغيره، فدل على أن أفعاله قائمة بذاته، مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته، وقد حكى البخاري إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق، وعلى هذا يدل صريح المعقول. فإنه قد ثبـت بالأدلـة العقليـة والسمعيـة أن كـل ما سـوى الله ـ تعالى ـ مخلـوق محدث، كائن بعد أن لم يكن، وأن الله انفرد بالقدم والأزلية، وقد قال تعالى: وأيضًا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بداية العقل، وإذا قيل: الإرادة والقدرة خصصت. قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء، وأيضًا فلا تعقل إرادة تخصيص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجبالتخصيص،وأيضًا فلابد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه، وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيًا، للزم وجوده قبل ذلك؛ لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور. وقد احتج من قال: الخلق هو المخلوق ـ كأبي الحسن ومن اتبعه مثل ابن عقيل ـ بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديمًا وإما حادثًا، فإن كان قديمًا لزم قدم المخلوق، لأنهما متضايفان، وإن كان حادثًا لزم أن تقوم به الحوادث، ثم ذلك الخلق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل. فأجابهم الجمهور ـ وكل طائفة على أصلها ـ فطائفة قالت: الخلق قديم وإن كان المخلوق حادثًا، كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة، وعليه أكثر الحنفية، قال هؤلاء: أنتم تسلمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية، والمراد مُحْدَث، فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة. وقالت طائفة: بل الخلق حادث في ذاته، ولا يفتقر إلى خلق آخر، بل يحدث بقدرته. وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم تكن، فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة، فالمتصل به أولى، وهذا جواب كثير من الكَرّامية والهاشمية وغيرهم. وطائفة يقولون: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله، فلم قلتم: إن ذلك ممتنع؟ وقولكم: هذا تسلسل. فيقال: ليس هذا تسلسلا في الفاعلين، والعلل الفاعلة، فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء، بل هو تسلسل في الآثار والأفعال، وهو حصول شىء بعد شىء وهذا محل النزاع. فالسلف يقولون: لم يزل متكلمًا إذا شاء، وقد قال تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}
والأفعال نوعان: مُتَعَدّ، ولازم، فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء ونحو ذلك، واللازم: مثل الاستواء، والنزول، والمجىء والإتيان، قال تعالى: والمقصود هنا أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، كما في الصحيحين: عن زيد بن خالد الجُهَنِيّ:أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة الصبح بالحُدَيْبِيَة على أثر سَماء كانت من الليل، ثم قال: (أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر. فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا بَنوْءِ كذا، ونوء كذا وكذا، فذلك كافر بي، مؤمن بالكواكب). وفي الصحاح حديث الشفاعة: (فيقول كل من الرسل إذا أتوا إليه: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) وهذا بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله. وفي الصحيح:(إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجَرِّ السلسلة على الصَّفْوان)، فقوله:(إذا تكلم الله بالوحي سمع)، يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه، وذلك ينفي كونه أزليًا، وأيضًا فما يكون كجر السلسلة على الصَّفَا، ويكون شيئا بعد شىء والمسبوق بغيره لا يكون أزليًا. وكذلك في الصحيح: (يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال: وفي الصحاح حديث النزول: (ينزل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)، فهذا قول وفعل في وقت معين،وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب، كما قال ذلك الأوزاعي، وحماد بن زيد، والفضيل بن عياض،وأحمد بن حنبل، وغيرهم. وأيضًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لَلَّهُ أشد أذُنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن، من صاحب الْقَيْنَةِ إلى قينته)، وفي الحديث الصحيح الآخر: (ما أذِنَ الله لشىء كأذنِه لنبي حسن الصوت، يتغنى بالقرآن، يجهر به) [أذِنَ يَأذَنُ أذَنًا: أي: استمع يستمع استماعَا]، وفي الصحيح: (لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها)، فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض. وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال: (قال الله: أنا عند ظني عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) وحرف [إن] حرف الشرط، والجزاء يكون بعد الشرط، فهذا يبين أنه يذكر العبد إن ذكره في نفسه، وإن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم. والمنازع يقول: ما زال يذكره أزلاً وأبدًا، ثم يقول: ذكره، وذكر غيره، وسائر ما يتكلم الله به هو شىء واحد، لا يتبعض ولا يتعدد، فحقيقة قوله: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا يذكر أحدا. وفي صحيح مسلم في حديث تعليم الصلاة: (وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللّهم ربنا ولك الحمد، يسمع الله لكم، فإن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده) فقوله: سمع الله لمن حمده؛ لأن الجزاء بعد الشرط، فقوله: (يسمع الله لكم) مجزوم حرك لالتقاء الساكنين، وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا.
|