الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (179- 184): {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}ولما أخبر سبحانه وتعالى بفائدة العفو أخبر بفائدة مقابله تتميماً لتأنيب أهل الكتاب على عدولهم عن النص وعماهم عن الحكمة فقال: {ولكم} أي يا أيها الذين آمنوا {في القصاص} أي هذا الجنس وهو قتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة من غير مجاوزة ولا عدوان {حياة} أي عظيمة بديعة لأن من علم أنه يُقتل لا يَقْتُل. وقال الحرالي: فالحياة لمن سوى الجاني من عشيرته ممن كان يعتدى عليه بجناية غيره في الدنيا، والحياة للجاني بما اقتص منه في الأخرى، لأن من يكفّر ذنبه حيي في الآخرة، ومن بقي عليه جناية فأخذ بها فهو في حال ذلك ممن لا يموت فيها ولا يحيى، لأن المعاقب في حال عقوبته لا يجد طعم الحياة لغلبة ألمه ولا هو في الموت لإحساسه بعقوبته- انتهى. وأما مطلق القتل كما كان أهل الجاهلية يقولون: القتل أنفى للقتل وليس كذلك، لأن من علموا أنهم إذا قتلوا اثنين لا يقتل بهما إلاّ واحد رُبما كان ذلك مجرياً لهم على القتل ويدخل فيه القتل ابتداء وهو أجلب للقتل لا أنفى له، وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها، ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه فإنها زائدة على عبارة القرآن في الحروف وناقصة في المعنى، فإذا أريد تصحيحها قبل القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً فكثرت الزيادة ولم تصل إلى رشاقة ما في القرآن وعذوبته- والله سبحانه وتعالى الموفق.ولما كانت هذه العبارة كما ترى معجزة في صحة معناها ودقة إشارته وغزير مفهوماته قال سبحانه وتعالى مرغباً في علو الهمم {يا أولي الألباب} أي العقول التي تنفع أصحابها بخلوصها مما هو كالقشر لأنه جمع لب. قال الحرالي: وهو باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ أمر الله في المشهودات كما شأن ظاهر العقل أن يلحظ الحقائق من المخلوقات، فهم الناظرون إلى ربّهم في آياته- انتهى. ثم علل ذلك بقوله: {لعلكم تتقون} أي الله بالانقياد لما شرع فتتحامون القتل. قال الحرالي: وفي إبهام لعل التي هي من الخلق كما تقدم تردد إعلام بتصنيفهم صنفين بين من يثمر ذلك له تقوى وبين من يحمله ذلك ويزيده في الاعتداء- انتهى. ولما حث سبحانه وتعالى على بذل المال ندباً وإيجاباً في حال الصحة والشح وتأميل الغنى وخشية الفقر تصديقاً للإيمان وأتبعه بذل الروح التي هو عديلها بالقتل الذي هو أحد أسباب الموت أتبع ذلك بذله في حال الإشراف على النقلة والأمن من فقر الدنيا والرجاء لغنى الآخرة استدراكاً لما فات من بذله على حبه فقال- وقال الحرالي: لما أظهر سبحانه وتعالى وجوه التزكية في هذه المخاطبات وما ألزمه من الكتاب وعلمه من الحكمة وأظهر استناد ذلك كله إلى تقوى تكون وصفاً ثابتاً أو استجداداً معالجاً حسب ما ختم به آية {ليس البر} من قوله: {هم المتقون} وما ختم به آية القصاص في قوله: {لعلكم تتقون} رفع رتبة الخطاب إلى ما هو حق على المتقين حين كان الأول مكتوباً على المترجين لأن يتقوا تربية وتزكية بخطاب يتوسل به إلى خطاب أعلى في التزكية لينتهي في الخطاب من رتبة إلى رتبة إلى أن يستوفي نهايات رتب أسنان القلوب وأحوالها كما تقدمت الإشارة إليه، ولما كان في الخطاب السابق ذكر القتل والقصاص الذي هو حال حضرة الموت انتظم به ذكر الوصية لأنه حال من حضره الموت، انتهى- فقال: {كتب عليكم} أي فرض كما استفاض في الشرع وأكد هنا بعلى، ثم نسخ بآية المواريث وجوبه فبقي جوازه، وبينت السنة أن الإرث والوصية لا يجتمعان، فالنسخ إنما هو في حق القريب الوارث لا مطلقاً فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله سبحانه وتعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» رواه أحمد والأربعة وغيرهم عن عمرو بن خارجة وأبي أمامة رضي الله تعالى عنهما {إذا حضر أحدكم الموت} أي بحضور أسبابه وعلاماته {إن ترك خيراً} أي ما لا ينبغي أن يوصى فيه قليلاً كان أو كثيراً، أما إطلاقه على الكثير فكثير، وأطلق على القليل في {إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} [القصص: 24] ثم ذكر القائم مقام فاعل كتب بعد أن اشتد التشوف إليه فقال: {الوصية} وذكر الفعل الرافع لها لوجود الفاصل إفهاماً لقوة طلبه {للوالدين} بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما {والأقربين بالمعروف} أي العدل الذي يتعارفه الناس في التسوية والتفضيل. قال الحرالي: وكل ذلك في المحتضر، والمعروف ما تقبله الأنفس ولا تجد منه تكرهاً- انتهى. وأكد الوجوب بقوله: {حقاً} وكذا قوله: {على المتقين} فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله على النقير والقطمير.ولما تسبب عن كونه فعل ما دعت إليه التقوى من العدل وجوب العمل به قال: {فمن بدله} أي الإيصاء الواقع على الوجه المشروع أو الموصى به بأن غير عينه إن كان عينياً أو نقصه إن كان مثلياً. وقال الحرالي: لما ولي المتقين إيصال متروكهم إلى والديهم وقراباتهم فأمضوه بالمعروف تولى عنهم التهديد لمن بدل عليهم، وفي إفهامه أن الفرائض إنما أنزلت عن تقصير وقع في حق الوصية فكأنه لو بقي على ذلك لكان كل المال حظاً للمتوفى، فلما فرضت الفرائض اختزل من يديه الثلثان وبقي الثلث على الحكم الأول، وبين أن الفرض عين الوصية فلا وصية لوارث لأن الفرض بدلها- انتهى.{بعد ما سمعه} أي علمه علماً لا شك فيه، أما إذا لم يتحقق فاجتهد فلا إثم، وأكد التحذير من تغيير المغير وسكوت الباقين عليه بقوله: {فإنمآ إثمه} أي التبديل {على الذين يبدلونه} بالفعل أو التقدير لا يلحق الموصى منه شيء. ولما كان للموصي والمبدل أقوال وأفعال ونيات حذر بقوله: {إن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {سميع} أي لما يقوله كل منهما {عليم} بسره وعلنه في ذلك، فليحذر من عمل السوء وإن أظهر غيره ومن دعاء المظلوم فإن الله يجيبه.ولما كان التحذير من التبديل إنما هو في عمل العدل وكان الموصي ربما جار في وصيته لجهل أو غرض تسبب عنه قوله: {فمن خاف} أي علم وتوقع وظن، أطلقه عليه لأنه من أسبابه، ولعله عبر بذلك إشارة إلى أنه يقنع فيه بالظن {من موص جنفاً} أي ميلاً في الوصية خطأ {أو إثماً} أي ميلاً فيها عمداً. قال الحرالي: وكان حقيقة معنى الجنف إخفاء حيف في صورة بر- انتهى. {فأصلح بينهم} أي بين الموصي والموصي لهم إن كان ذلك قبل موته بأن أشار عليه بما طابت به الخواطر، أو بين الموصي لهم والورثة بعد موته إن خيف من وقوع شر فوفق بينهم على أمر يرضونه. وقال الحرالي: وفي إشعاره بذكر الخوف من الموصي ما يشعر أن ذلك في حال حياة الموصي ليس بعد قرار الوصية على جنف بعد الموت، فإن ذلك لا يعرض له مضمون هذا الخطاب، وفي إيقاع الإصلاح على لفظة بين إشعار بأن الإصلاح نائل البين الذي هو وصل ما بينهم فيكون من معنى ما يقوله النحاة مفعول على السعة حيث لم يكن فأصلح بينه وبينهم- انتهى. {فلا إثم عليه} أي بهذا التبديل. ولما كان المجتهد قد يخطئ فلو أوخذ بخطئه أحجم عن الاجتهاد جزاه الله سبحانه عليه بتعليل رفع الإثم بقوله إعلاماً بتعميم الحكم في كل مجتهد: {إن الله} أي المختص بإحاطة العلم {غفور} أي لمن قصد خيراً فأخطأ {رحيم} أي يفعل به من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم.ولما أباح سبحانه الأكل مما خلقه دليلاً على الوحدانية والرحمة العامة والخاصة وكان من طبع الإنسان الاستئثار وكان الاستئثار جارّاً إلى الفتن، وأتبعه حكم المضطر وأشار إلى زجره عن العدوان بتقييده عنه في حال التلف فكان في ذلك زجر لغيره بطريق الأولى، وأولاه الندب إلى التخلي عما دخل في اليد من متاع الدنيا للأصناف الستة ومن لافهم، ثم الإيجاب بالزكاة تزهيداً في زهرة الحياة الدنيا ليجتث العدوان من أصله، وقفي ذلك بحكم من قد يعدو، ثم بما تبعه من التخلي عن المال في حضرة الموت فتدربت النفس في الزهد بما هو معقول المعنى بادئ بدء من التخلي عنه لمن ينتفع به أتبعه الأمر بالتخلي عنه لا لمحتاج إليه بل لله الذي أوجده لمجرد تزكية النفس وتطهيرها لتهيئها لما يقتضيه عليها صفة الصمدية من الحكمة، هذا مع ما للقصاص والوصية من المناسبة للصوم من حيث إن في القصاص قتل النفس حساً وفي الصوم قتل الشهوة السبب للوطء السبب لإيجاد النفس حساً وفيه حياة الأجساد معنى وفي الصوم حياة الأرواح بطهارة القلوب وفراغها للتفكر وتهيئها لإفاضة الحكمة والخشية الداعية إلى التقوى وإماتة الشهوة وشهره شهر الصبر المستعان به على الشكر، وفيه تذكير بالضّرّ الحاثّ على الإحسان إلى المضرور وهو مدعاة إلى التخلي من الدنيا والتحلي بأوصاف الملائكة ولذلك نزل فيه القرآن المتلقى من الملك، فهو أنسب شيء لآية الوصية المأمور بها المتقون بالتخلي من الدنيا عند مقاربة الاجتماع بالملائكة، وختمها بالمغفرة والرحمة إشارة إلى الصائم من أقرب الناس إليهما فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا} فخاطب بما يتوجه بادئ بدء إلى أدنى الطبقات التي التزمت أمر الدين لأنه لم يكن لهم باعث حب وشوق يبعثهم على فعله من غير فرض بخلاف ما فوقهم من رتبة المؤمنين والمحسنين فإنهم كانوا يفعلون معالم الإسلام من غير إلزام فكانوا يصومون على قدر ما يجدون من الروح فيه- قاله الحرالي، وقال: فلذلك لم ينادوا في القرآن نداء بعدٍ ولا ذكروا إلا ممدوحين، والذين ينادون في القرآن هم الناس الذين انتبهوا لما أشار به بعضهم على بعض والذين آمنوا بما هم في محل الائتمار متقاصرين عن البدار، فلذلك كل نداء في القرآن متوجه إلى هذين الصنفين إلا ما توجه للإنسان بوصف ذم في قليل من الآي- انتهى.{كتب} أي فرض بما استفاض في لسان الشرع وتأيد بأداة الاستعلاء {عليكم الصيام} وهو الإمساك عن المفطر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بالنية وقال الحرالي: فرض لما فيه من التهيؤ لعلم الحكمة وعلم ما لم تكونوا تعلمون وهو الثبات على تماسك عما من شأن الشيء أن يتصرف فيه ويكون شأنه كالشمس في وسط السماء، يقال: صامت- إذا لم يظهر لها حركة لصعود ولا لنزول التي هي من شأنها، وصامت الخيل- إذا لم تكن مركوضة ولا مركوبة، فتماسك المرء عما شأنه فعله من حفظ بدنه بالتغذي وحفظ نسله بالنكاح وخوضه في زور القول وسوء الفعل هو صومه، وفي الصوم خلاء من الطعام وانصراف عن حال الأنعام وانقطاع شهوات الفرج، وتمامه الإعراض عن أشغال الدنيا والتوجه إلى الله والعكوف في بيته ليحصل بذلك نبوع الحكمة من القلب، وجعل كتباً حتى لا يتقاصر عنه من كتب عليه إلا انشرم دينه كما ينشرم خرم القربة المكتوب فيها- انتهى.{كما كتب} أي فرض، فالتشبيه في مطلق الفرض {على الذين} وكأنه أريد أهل الكتابين فقط وأثبت الحال فقال: {من قبلكم} فيه إشعار بأنه مما نقضوا فيه العهد فكتموه حرصاً على ضلال العرب، ولما كان في التأسي إعلاء للهمة القاصرة وإسعار وإغلاء للقلوب الفاترة لأن الشيء الشاق إذا عم سهل تحمله قال: {لعلكم تتقون} أي تجعلون بينكم وبين إسخاط الله وقاية بالمسارعة إليه والمواظبة عليه رجاء لرضى ربكم وخوفاً ممن سبق من قبلكم، لتكون التقوى لكم صفة راسخة فتكونوا ممن جعلت الكتاب هدى لهم، فإن الصوم يكسر الشهوة فيقمع الهوى فيروع عن موافقة السوء. قال الحرالي: وفي إشعاره تصنيف المأخوذين بذلك صنفين: من يثمر له صومه على وجه الشدة تقوى، ومن لا يثمر له ذلك.ولما كان لهذه الأمة جمع لما في الكتب والصحف كانت مبادئ أحكامها على حكم الأحكام المتقدمة فكما وجهوا وجهة أهل الكتاب ابتداء ثم لهم بالوجهة إلى الكعبة انتهاء كذلك صوّموا صوم أهل الكتاب {أياماً معدودات} أي قلائل مقدرة بعدد معلوم ابتداء ثم رقوا إلى صوم دائرة الشهر وحدة قدر انتهاء، وذلك أنه لما كان من قبلهم أهل حساب لما فيه حصول أمر الدنيا فكانت أعوامهم شمسية كان صومهم عدد أيام لا وحدة شهر، وفي إعلامه إلزام بتجديد النية لكل يوم حيث هي أيام معدودة، وفي إفهامه منع من تمادي الصوم في زمن الليل الذي هو معنى الوصال الذي يشعر صحته رفع رتبة الصوم إلى صوم الشهر الذي هو دورة القمر يقنع الفطر في ليلة رخصة للضعيف لا عزماً على الصائم، وكان فيه من الكلفة ما في صوم أهل الكتاب من حيث لم يكن فيه أكل ولا نكاح بعد نوم، فكان فيه كلفة ما في الكتب لينال رأس هذه الأمة وأوائلها حظاً من منال أوائل الأمم ثم يرقيها الله إلى حكم ما يخصها فتكون مرباة تجد طعم اليسر بعد العسر- انتهى وفيه تصرف. ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم الوصال، قالوا: يا رسول الله! إنك تواصل! قال: «إني لست كهيئتكم» وقال: «من كان مواصلاً فليواصل إلى السحر» قال الحرالي: فأنبأ بتمادي الصوم إلى السحر لتنتقل وجبة الفطر التي توافق حال أهل الكتاب إلى وجبة السحر التي هي خصوص أهل الفرقان- انتهى. وفي مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم لما أبوا إلا الوصال أياماً ما يشهد لمن أباح ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي: وفي تأسيسه على العدد ملجأ يرجع إليه عند إغماء الشهر الذي هو الهلال كما سيأتي التصريح به، فصار لهم العدد في الصوم بمنزلة التيمم في الطهور يرجعون إليه عند ضرورة فقد إهلال الرؤية كما يرجعون إلى الصعيد عند فقد الماء.ولما كان للمريض حاجة للدواء والغذاء بحسب تداعي جسمه رفع عنه الكتب فتسبب عما مضى قوله سبحانه وتعالى: {فمن كان منكم مريضاً} أي مرضاً يضره عاجلاً أو يزيد في علته آجلاً. قال الحرالي: فبقي على حكم التحمل بيقين مما يغذو المؤمن ويسقيه من غيب بركة الله سبحانه وتعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» فللمؤمن غذاء في صومه من بركة ربه بحكم يقينه فيما لا يصل إليه من لم يصل إلى محله، فعلى قدر ما تستمد بواطن الناس من ظواهرهم يستمد ظاهر الموقن من باطنه حتى يقوى في أعضائه بمدد نور باطنه كما ظهر ذلك في أهل الولاية والديانة، فكان فطر المريض رخصة لموضع تداويه واغتذائه.ولما كان المرض وصفاً جاء بلفظ الوصف ولما كان السفر وهو إزالة الكن عن الرأس تمام دورة يوم وليلة بالمسير عنه بحيث لا يتمكن من عوده لمأواه في مدار يومه وليلته نسبة بين جسمانيين جاء بحرف الإضافة مفصولاً فقال: {أو على سفر} لما يحتاج إليه المسافر من اغتذاء لوفور نهضته في عمله في سفره وأن وقت اغتذائه بحسب البقاع لا بحسب الاختيار إذ المسافر ومتاعه على قلب إلا ما وقى الله «السفر قطعة من العذاب» وذلك لئلا يجتمع على العبد كلفتان فيتضاعف عليه المشقة ديناً ودنيا فإذا خف عنه الأمر من وجه طبيعي أخذ بالحكم من وجه آخر ديني {فعدة} نظمه يشعر أن المكتوب عدة {من أيام} أي متتابعة أو متفرقة {أخر} لانتظام مقاطع الكلام بعضها ببعض رؤوساً وأطرافاً، ففي إفهامه أن مكتوب المريض والمسافر غير مكتوب الصحيح والمقيم، فبذلك لا يحتاج إلى تقدير: فأفطر، لأن المقصد معنى الكتب ويبقى ما دون الكتب على حكم تحمله، فكأنه يقال للمريض والمسافر: مكتوبك أياماً أخر لا هذه الأيام، فتبقى هذه الأيام خلية عن حكم الكتب لا خلية عن تشريع الصوم.ولما كانوا قوماً لم يتعودوا الصوم وكانت عناية الله محيطة بهم تشريفاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم قال مخيراً في أول الأمر: {وعلى الذين يطيقونه} أي الصوم، من الطوق وهو ما يوضع في العنق حلية، فيكون ما يستطيعه من الأفعال طوقاً له في المعنى {فدية طعام} بالإضافة أو الفصل {مسكين} بالإفراد إرجاعاً إلى اليوم الواحد، وبالجمع إرجاعاً إلى مجموع الأيام لكل يوم طعام واحد، وهو مد وحفنتان بالكفين هما قوت الحافن غداء وعشاء كفافاً لا إقتاراً ولا إسرافاً، في جملته توسعة أمر الصوم على من لا يستطيعه ممن هو لغلبة حاجة طبعه إلى الغذاء بمنزلة المريض والمسافر فهو ممراض بالنهمة كأنها حال مرض جبل عليه الطبع، فكان في النظر إليه توفية رحمة النظر إلى المريض والمسافر إلا ما بين رتبتي الصنفين من كون هذا مطيقاً وذينك غير مطيق أو غير متمكن، وفي إعلامه بيان أن من لم يقدر على التماسك عن غذائه فحقه أن يغذو غيره ليقوم بذل الطعام عوضاً عن التماسك عن الطعام لمناسبة ما بين المعنيين لذلك؛ ولم يذكر هنا مع الطعام عتق ولا صوم {فمن تطوع خيراً} أي فزاد في الفدية {فهو خير له} لأنه فعل ما يدل على حبه لربه.ولما ساق سبحانه وتعالى الإفطار عند الإطاقة والفدية واجبها ومندوبها مساق الغيبة وترك ذكر الفطر وإن دل السياق عليه إشارة إلى خساسته تنفيراً عنه جعل أهل الصوم محل حضرة الخطاب إيذاناً بما له من الشرف على ذلك كله ترغيباً فيه وحضاً عليه فقال: {وأن تصوموا} أيها المطيقون {خير لكم} من الفدية وإن زادت، قال الحرالي: ففيه إشعار بأن الصائم يناله من الخير في جسمه وصحته ورزقه حظ وافر مع عظم الأجر في الآخرة، كما أشار إليه الحديث القدسي: «وكل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي» وذلك لأنه لما كانت الأعمال أفعالاً وإنفاقاً وسيراً وأحوالاً مما شأن العبد أن يعمله لنفسه ولأهله في دنياه وكان من شأنه كانت له، ولما كان الصوم ليس من شأنه لم يكن له، فالصلاة مثلاً أفعال وأقوال وذلك من شأن المرء والزكاة إنفاق وذلك من شأنه، والحج ضرب في الأرض وذلك من شأنه وليس من شأنه أن لا يأكل ولا يشرب ولا ينكح ولا ينتصف ممن يعتدي عليه فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، فليس جملة مقاصد الصوم من شأنه وحقيقته إذبال جسمه وإضعاف نفسه وإماتته، ولذلك كان الصوم كفارة للقتل خطأ لينال بالصوم من قتل نفسه بوجه ما ما جرى على يده خطأ من القتل، فكان في الصوم تنقص ذات الصائم فلذلك قال تعالى: «فإنه لي» حين لم يكن من جنس عمل الآدمي، قال سبحانه وتعالى: «وأنا أجزي به» ففي إشارته أن جزاءه من غيب الله مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كل ذلك في مضمون قوله: {إن كنتم تعلمون} انتهى. وجوابه والله سبحانه وتعالى أعلم: صمتم وتطوعتم، فإنهم إن لم يعلموا أنه خير لهم لم يفعلوا فلم يكن خيراً لهم. قال الحرالي: كان خيراً حيث لم يكن بين جمع الصوم والإطعام تعاند بل تعاضد لما يشعر به لفظ الخير- انتهى. روى البخاري رضي الله تعالى عنه في التفسير ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت {وعلى الذين يطيقونه} الآية كان من أراد أن يفطر ويفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وفي رواية: حتى نزلت هذه الآية {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] وللبخاري عن ابن عمر عن أصحاب محمد رضي الله تعالى عنهم قالوا: أنزل {شهر رمضان} فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكيناً ترك الصوم من يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وأن تصوموا خير لكم} فأمروا بالصوم.
|